احتفلت الدنمارك بمرور 158 سنة على إعلان أول دستور للمملكة الدنماركية (5 يونيو/ حزيران 1849) بعد تعرض ملك البلاد فريدريك السابع إلى ضغوطات شعبية واسعة النطاق أجبرته على إصدار هذا الدستور، لينقل بذلك المملكة من سلطة الرجل الأوحد المتغطرس الطاغية إلى نظام الدولة البرلمانية الدستورية.
حصل الشعب الدنماركي، على هذا الدستور بعد نضالات طويلة ومستمرة خاضها بالوسائل السلمية ومن دون أن تسيل قطرة دم واحدة على الأرض، وعلى العكس مما كان يحصل في بعض البلدان الأوروبية التي ناضلت شعوبها من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
في ذلك الوقت خرج المواطنون الدنماركيون إلى الشوارع، رافعين شعارات الحرية والديمقراطية وإسقاط الحكم الملكي المستبد المطلق، الأمر الذي أحرج الملك وأضطره إلى الإذعان لتلبية مطلب الشعب والتخلي عن صلاحياته الواسعة والمطلقة، ونقلها بالتالي من حكم الرجل الفرد إلى حكم الشعب عبر صناديق الاقتراع.
يتكون الدستور الدنماركي من تسع وثمانين مادة أساسية، ظلت منذ ذلك الوقت، محافظة على ثبات قوتها وجوهرها على رغم التحولات الكثيرة التي مرت بها البلاد في مختلف مناحي الحياة العامة، ولكنها لم تشهد التعديلات الضرورية العصرية سوى ست مرات كان أهمها، تعديل العام 1915، عندما حصلت المرأة الدنماركية على حق الانتخاب، والعام1953، عندما لم يتمكن الملك من إنجاب ذكر، ما سهل التعديل على أبنته ماركريت تولي عرش المملكة من بعده، والعام 1978، عند ما أعطي حق التصويت لمن أتم سن الثامنة عشرة من المواطنين، وجاءت التعديلات جميعها بما يخدم أوضاع الشعب وطموحاته وأمانيه بالعيش في دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية الدستورية.
يرتكز الدستور الدنماركي على قواعد أساسية صلبة وقوية تحميها مبادئ القانون الذي يمهد دائما للمسار الديمقراطي القائم على المشاركة الشعبية، إذ يأتي حكم البلاد من خلال التصويت الشعبي العام الحر والمباشر، ويتم تقسيم السلطات إلى ثلاث تراقب بعضها بعضا وتكون جميعها مكرسة في خدمة الدولة والمجتمع.
وبموجب المادة 89 من الدستور، تكون جهاز الدولة السياسي والإداري والاجتماعي والقضائي، فالملك والوزراء يشكلون السلطة التنفيذية، ومجلس الشعب (البرلمان) يشكل السلطة التشريعية، والجهاز القضائي المستقل يشكل السلطة القضائية، والكنيسة البروتستانتية اللوثرية هي بمثابة الدين الرسمي على الرغم من عدم إهتمام غالبية الشعب بالدين.
ومن أهم بنود الدستور الدنماركي التي تحمي وتصون حقوق المواطن (حق التصويت والانتخاب، وحرية التعبير والرأي والضمير، وحرية المعتقد، وحرية التجمهر والتظاهر والمطالبة بالحقوق، وتكوين النقابات وحرية الصحافة، وحق التملك، والاستجواب الدستوري) إذ يتوجب على الشرطة خلال القبض على أي مواطن عرض قضيته على المحاكم خلال فترة لا تزيد عن 24 ساعة فقط، ويمنع التمييز العنصري والتمييز بسبب اللون أو الجنس أو المعتقد إذ كل صوت يساوي الآخر وحيث يشارك جميع أفراد المجتمع في صناعة القرار ومستقبل البلاد السياسي.
وبموجب الدستور الدنماركي، فإن الملك أو الملكة ليست لديهما أية سلطة حقيقية، في صنع قرارات الدولة والمجتمع، ولكن العرش الملكي يبقى رمز البلاد الأصيل، الذي يقدره الشعب ويحترمه.
وتقوم الحكومة الدنماركية المنتخبة عبر صناديق الاقتراع بممارسة سلطة إدارة وتنظيم حياة الدولة من القاعدة إلى القمة، بحيث تتحمل مسئولية الأمن والاستقرار والدفاع الوطني والسياسة الخارجية والرعاية الاجتماعية والصحية والاقتصادية وتوفير الفرص المتكافئة وسياسة التعليم وسوق العمل.
ويمارس البرلمان صلاحياتة الكاملة الرقابية والتشريعية من دون أية ضغوط من أحد، في كل المناسبات تقوم الحكومة بطرح القضايا الحساسة لاستفتاءات الشعب، سواء في ما يتعلق بالشأن الداخلي أو الخارجي، بمعنى أن الشعب وليس الملك أو الحكومة هو وحده صاحب السلطة والقرار السياسي.
ووفقا لبنود الدستور، يتمتع المجتمع الدنماركي، بخدمات صحية واجتماعية واقتصادية وتعليمية وترفيهية كثيرة، توفرها الدولة لكل مواطن من دون تمييز أو تفضيل، فلا يوجد في الدنمارك من يعاني من الجوع أو الحرمان أو الاضطهاد أو التمييز في العمل أو الدراسة أو المسكن أو غير ذلك من حقوق المواطنة المشروعة.
ولو قمنا هنا بإجراء بعض المقارنات بين ما يحمله الدستور الدنماركي من نصوص ومعان جليلة لخدمة المواطنيين، والدساتير القائمة حاليا في بعض بلداننا المشرقية، لوجدنا الفارق الكبير بينهما، الدستور الدنماركي والدساتير الموجودة في تلك البلدان، فالمشاركة الشعبية معدومة أو شبه معدومة وفرص العمل عادة ما تعطى للمقربين من السلطة الحاكمة، في حين تحجب عن المواطن العادي بلا مبررات، ولا تطبق القوانين على رموز السلطة ونخبة المجتمع، بل يمكن التستر عليهم عند فشلهم أو تفشي الفساد في صفوفهم. والحركات والأحزاب والجمعيات السياسية التي تفوز في الانتخابات العامة عادة ما يكون فوزها بالتزوير أو عبر تقديم الولاءات العشائرية أو السلطوية أو الرشاوى والدعايات والشعارات الكاذبة. والتعليم يقتصر على أبناء الذوات والمتنفذين في الدولة والمجتمع، أما المواطنون البسطاء فهم يسبحون في بحور الجهل والأمية والتخلف. وبالنسبة للمرأة فإنه مازال ينظر لها بأزدراء فلا يتاح لها في الكثير من تلك البلدان المجال في نيل التعليم والرعاية والتربية على رغم أنها هي التي تنشئ الأجيال الجديدة للمجتمع.
من هنا نقول إن المقارنة في هاتين الحالتين تصبح من حكم المستحيلات في هذا الوقت على الأقل، فهل يمكن أن يأتي الزمن الذي تستطيع فيه تلك الأنظمة السياسية المتخلفة أن تعيد النظر في دساتيرها وتعمل على تطبيقاتها على أرض الواقع؟
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 2108 - الجمعة 13 يونيو 2008م الموافق 08 جمادى الآخرة 1429هـ