العدد 2108 - الجمعة 13 يونيو 2008م الموافق 08 جمادى الآخرة 1429هـ

في الخطاب الليبرتاري

مصباح الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع مصباح الحرية

هل بوسع الخطاب الليبرالي، أو الليبرتاري، كما تبلور في الغرب، يشتبه بالدولة ويتوجس طغيانها على سائر مناحي الحياة، لا سيما الاقتصادية منها، أن يكون كونيا، شامل السريان والنفاذ، منطبقا، في أوج تبلوره ذاك، على كل ظرف وعلى كل حالة، في أرجاء هذا العالم؟

لا نرمي من وراء طرح هذا السؤال إلى استعادة سجال، نراه عقيما، كان قد نشب بعيْد الحرب الباردة وانتصار المعسكر الغربي الليبرالي فيها انتصارا أرسى النظام الديمقراطي واقتصاد السوق أفقا وحيدا للبشرية، حتى غالى البعض واشتط وبشّر بـ «نهاية التاريخ»، وانكفأ المعترضون عليه إلى موقع دفاعي، يرفعون «الخصوصيات الثقافية» يتوهمون ملاذا وسدّا في مواجهة ذلك المنحى الجارف... وقد كان السجال ذاك عقيما غير مجدٍ، إذ قام على إنكار كونية مبدأ الحرية وقيمها، بل بلغ مبلغ العنصرية في حق الذات، إذ اعتبرها، لجوهرٍ فيها ملازم، عصيّة على ذلك المبدأ وعلى تلك القيم، نقيضا لها أصليا...

ولأن السجال ذاك أمره كذلك، فهو لا يعنينا هنا، ولا ينتسب إليه سؤالنا موضوع هذه العجالة، إذ إن مساءلتنا للخطاب الليبرتاري لا تنطلق من مسبقات «ماهوية»، على ما للخصوصيات الثقافية من بعض أهمية، بل هي مساءلة من قبيل تاريخي، على قاعدة الاشتباه بأن الخطاب ذاك استُخلص ما بلغته الدولة في بلاد الغرب، من تطور واستحكام، وربما نزع الآخذون به إلى إسقاطه، كما هو على كل ظاهرة دولتية أو تدّعي تلك الصفة في عالمنا الراهن وفي كل أصقاعه.

فالصفة الأساسية للخطاب الليبرتاري في الغرب، أنه ينطلق من الدولة، القوية أو الناجزة، كمعطى ماثل، ليرتد عليها بالنقد، جاحدا عليها، على سبيل المثال وفي ما يخصه، تدخلها في الحياة الاقتصادية وناكرا عليها الاضطلاع بتوجيهها. وهو لا يأتي في كل ذلك بجديد، إذ لا يفعل غير التقيد بقانون قامت عليه الحداثة السياسية، في صيغتها الليبرالية، يحتل فيها موقع التأسيس، هو ذلك الذي مفاده الإقرار باستقلالية أوجه الحياة الاجتماعية والنشاط البشري ومناحيهما عن بعضها بعضا، لا يتقدم أحدها على سواه ولا يطغى عليه ولا يستتبعه، فتباينت حقولا، ثقافة وإعلاما وديانات وما إليها، لا يعدو السياسي أن يكون أحدها، بل انقسم هو نفسه، سلطات ومراتب كلاسيكية مستقلة ومعلومة، هي التنفيذية والتشريعية والقضائية.

كل ذلك للقول إن الفكر الليبرتاري الغربي قام بالضد من دولة، استكملت مقوماتها كدولة، مسيطرة أو تنزع إلى السيطرة، سواء تمثلت في «الملكية المطلقة» التي قامت الثورات البرجوازية لتجهز عليها، أو في أصناف أنظمة الاستبداد التي استحكمت ردحا من الزمن في الغرب في العصر الحديث، من توتاليتاريات فاشية ونازية وشيوعية. وذلك تحديدا ما قد يستوي تحديا أمام الفكر الليبرتاري، وأمام نزوعه الكوني، وهو نزوع يبقى شرعيا من الناحية النظرية، ولكنه يبقى مشروطا بالظرف التاريخي، الذي يعني في هذه الحالة، وجود الدولة.

إذ كيف يمكن للدعوة الليبرتارية أن تستقيم وأن تكون نافذة المعنى فاعلة الجدوى حيث تنتفي الدولة أو حيث لم تتمكّن، مؤسسة وكائنا اعتباريا، تجسيدا لكيانية ما وتعبيرا عنها، أو حيث تخوض الدولة مجرد معركة الوجود؟

هل من معنى للخطاب الداعي للحد من سلطة الدولة وتدخلها في المجال الاقتصادي أو في سواه في بلد مثل الصومال تفكك إلى عناصره (القبَلية) الأولى، أو في العراق الذي أدى سقوط نظامه السابق إلى زوال دولته، مع أنه يُفترض في المستوييْن ذينك، أي النظام والدولة، أن يكونا متباينين، تباين الجوهر الثابت عن العرض الزائل، وقس على ذلك الحال في أفغانستان؟

وتلك قد تكون أمثلة قصوى إلا أنها ليست بالشواذ الذي «يُحفظ ولا يُقاس عليه»، حسب تعبير القدامى، بل أن الدولة سمتُها الهشاشة في أرجاء كثيرة من العالم، ذلك الذي كان يوصف، أيام الاستقطاب الثنائي، بـ «الثالث»، بحيث لا تُطلق تسمية الدولة على دوله إلا من قبيل التجاوز، وحيث كثيرا ما لا تعدو دوله تلك أن تكون مجرد «سلطات» أمرٍ واقع في الغالب، فاقدة للشرعية، ترسي علاقة غَلبةٍ وقسرٍ داخلييْن، لا تنهض بتجسيد كيان ولا يتألف حولها إجماع شعب، إجماعا طوعيا أساسه الارتضاء. ولعل ما سبق يمثل توصيفا لما أسمته بعض الأدبيات، في أعقاب الحرب الباردة، بـ «الدول الفاشلة».

والدول تلك تواجه لُبسا يكاد يبلغ مبلغ الإعضال، فهي في نظر القانون الدولي دول-أمم، تحظى بالاعتراف بصفتها تلك وتتمتع بعضوية الأمم المتحدة وسواها من الهيئات الناظمة للحياة الدولية، ويسري عليها ما يسري على سائر الدول الأخرى، من حيث الحقوق كما من حيث الواجبات، أقله نظريا وإن نحن توقفنا عند شكلانية القانون. وذلك اللبس هو ما قد يكون شكّل «خدعة بصرية» وقع فيها الخطاب الليبرتاري الوافد من الخارج (أما «نظيره» الداخلي فلا يزال كسيحا في الغالب، غائما تبسيطيا) والذي سلط على تلك الدول غير الناجزة أو غير المكتملة أو الفاقدة لمقومات الدولة «مقولات» وآراء وأفكارا استقاها من تجربته التاريخية الخاصة، أي الغربية، واعتبرها كونية النفاذ والصلاحية.

محصلة كل ذلك أن الخطاب الليبرتاري أضحى، في مثل تلك الحالات، وهي قد تكون الغالب عددا على صعيد العالم، خطابا مفارِقا لا ينطبق على واقع قائم، حتى من حيث وظيفته النقدية، لفرط ما يبدو سابقا على هاجس أكثر إلحاحا، هو بعث الدولة إلى الوجود، في مناطق عدة لا تزال في وضع ما قبل الدولة أو ترتدّ إلى ما دونها، على ما تدل أمثلة كثيرة، لا سيما في المنطقة العربية، حيث لا تكاد تحظى «الدولة»، أو ما يتسمّى باسمها، باعتراف من يفترض أنهم مواطنوها، يتجاوزونها نحو أمّة ما، عربية أو إسلامية، أو يناكفونها باسم انتماء دوني، عضوي، إلى الطائفة أو الإثنية أو العشيرة.

لكل ذلك، على الخطاب الليبرتاري ألا يكون، في أوضاع عينية كتلك، مجرد ناقد للدولة، بل عليه أن يكون مساعدا على استيلادها، أي عليه بمعنى من المعاني أن يعيد صوغ نفسه.

* كاتب تونسي، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»

www.misbahalhurriyya.org

إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"

العدد 2108 - الجمعة 13 يونيو 2008م الموافق 08 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً