أوصل الاستبداد الدولة العربية المعاصرة (الدول العربية) إلى لعب دور المعرقل للتحولات بعد أن افترضت النخبة الانقلابية الايديولوجية والعسكرية أنها تقود التقدم، ووصلت الآن إلى نهاياتها التاريخية وفقدت وظائفها وأحيانا مبرر وجودها ولم يعد أمامها من حل سوى التسوية والتوصل إلى صيغة توافقية وتصالحية مع الجماعات السياسية. وبدلا من أن تستوعب النخب العربية دروس الماضي أخذ بعضها يمعن في الكارثة ويدفع التناقضات إلى نهاية مأسوية كالانقلاب على الانتخابات في الجزائر واحتكار السلطة في تونس واللجوء إلى قوانين التفافية في مصر لتعطيل المؤسسات المدنية والمنظمات الأهلية وتشديد قبضة الدولة على حركة المجتمع. بعض النخب أخذ يتجه نحو المزيد من النهج الانقلابي ليس على المجتمع فقط بل على الدولة أيضا، وهذا قد يؤدي إلى تكوين مجتمع مغلق يحيط به سور الاستبداد وستكون نتائجه كارثة على الجماعات الأهلية، إذ يرجح أن تندفع نحو المزيد من التمسك بحلقاتها الضيقة التي ستساهم في زرع بذور التفرقة في هيكلية الدولة وهيئاتها المدنية، الأمر الذي سيسرع في تفككها بما يتوافق مع تفكك المجتمع الأهلي وتتوزع على هوياته وثقافته المتنوعة. فالدولة (النخبة) في بعض البلدان العربية لم تعد تلعب دور القيادة للتطور السياسي، بل أخذت تنقلب على فرضية تأسيسها الأول لتلعب دور المعرقل وأحيانا المعطل للحياة السياسية والنيابية والنقابية والثقافية، بقصد تطويل فترة سيطرتها على السلطة، وهو أمر قد يقود إلى كارثة أكبر وهي اختفاء تلك الدول من خريطة الجغرافيا السياسية ونهوض دول بديلة منها قد تكون بأحجام صغيرة أو كبيرة (العراق نموذجا).
تتطلب المرحلة الانتقالية مشروعات إنقاذية تتجاوز مفهوم الإصلاحات ولا يكفي هنا إلقاء المسئولية على مؤامرات خارجية وتبرير الكوارث باتهام الآخر بارتكاب الأخطاء، فالمسألة تتطلب المزيد من الوعي التاريخي الذي يعيد تركيب السياسة بما يتناسب مع مستوى تطور المجتمع وحاجاته وبما يتجانس مع ثقافاته وهويته الحضارية. والمسئولية هنا مشتركة بين الدولة والجماعات السياسية التي يفترض أنها تمتلك الوعي الذي يتجاوز الحدود المذهبية والطائفية الضيقة وتقرأ التحولات بمنظار تاريخي واستراتيجي.
حتى تصل التسوية إلى ذاك المستوى الواعي للأزمة في وقت تمر المنطقة في مرحلة انتقالية شديدة التعقيد والتركيب لابد من إعادة التصحيح بتصحيح الفهم لتلك العلاقة بين الدولة والناس وفهم السلطة لطبيعة دورها ووظائفها الاجتماعية وكذلك فهم الجماعات السياسية لموضوعة الدولة والتقاط أهمية السلطة العادلة في التخطيط للتقدم وقيادة التحول. فالتطور يحتاج إلى منظومات معرفية يعاد تأسيس أدواتها من خلال الهوية الثقافية لتاريخ الجماعات. ولا شك ستساعد تلك المنظومات في لعب دورها على تصحيح الخلل.
تصحيح الفهم يبدأ من معالجة الخلل العام، أما تلك التصرفات السلبية الصغيرة التي تبرز في السلوكيات الاجتماعية والسياسية فيمكن تصحيحها من خلال تشجيع إعادة حركة بناء المنظومات التقليدية والمراكز الثقافية وتعزيز المؤسسات الأهلية وتطوير منظمات «المجتمع المدني» كما يقال في الايديولوجيات المعاصرة. فدعم الهيئات الخيرية ودور الحضانة والتعليم والتربية والنقابات والجمعيات والأندية والاتحادات ورعاية منظمات الإغاثة والطبابة ومساعدة الأسر المحتاجة وتقديم المعونات الإنسانية وإنشاء المشروعات الخيرية وغيرها من المسائل الضرورية كلها عوامل تخفف الضغط وتنمي المشاعر المشتركة في سياق أهلي - مدني متوازن مع التنمية العامة التي تقوم بها الدولة على مستوى المجتمع كله. فالأعمال الصغيرة إذا تراكمت تؤدي إلى نوع من الوعي المتقدم للعلاقات وتعطي بعض المعنى لدور الفرد في البناء، وتسقط بالتالي تلك التصورات الخاطئة التي تنشأ عن تصرفات سلوكية ناجمة أصلا عن تبطل المجتمع وعدم اشتراكه أو مشاركته في لعب دور أهلي - مدني ولو صغير في عملية التنمية الكبيرة.
تتطلب سياسة إعادة الحياة إلى المجتمع تأسيس أدوات تعيد له الحيوية ليقوم بالتحرك بالاتجاه الصحيح، وهذا لا يتم إلا باتخاذ القوى السياسة خطوات جذرية نحو التصالح مع الدولة ومستجدات الواقع.
حركة الإخوان المسلمين مثلا مرت قبل أن تبلور مفهومها للديمقراطية في محطات زمنية لعبت دورها في إنضاج الفكرة وإخراجها بصيغة نهائية في منتصف التسعينات. سابقا لم تكن «النظرية» واضحة وإذا وجدت كانت تشكل هما ثانويا مثلها مثل الحركات السياسية العربية المعاصرة (العلمانية والقومية واليسارية) التي تأسست في مطلع القرن الماضي.
ركزت الحركة الإخوانية في بداياتها التأسيسية على مفاهيم الأمة والجماعة والدولة وشكل النظام والعلاقات العربية والإسلامية والنظرة إلى القضايا الدولية وغيرها من المسائل المتعلقة بفلسطين والهوية والتاريخ والثقافة والايديولوجيات الأوروبية. وتركيز الاهتمام على المسائل الكبرى لم يمنع حركة الإخوان من التفكير بالمسائل الدستورية والتشريعية والقضائية والتربوية ودور الدولة في المجتمع ووظيفة الشرع كإطار ينظم علاقات البشر ويقنن الأنظمة التي يتم التعامل بها على مستوى الاقتصاد والتجارة والمال.
لاشك في أن عدم وضوح هوية الإخوان في بداية التأسيس لعب دوره في تأخير حسم الكثير من المسائل المتعلقة بمهمات الحركة وأولويات برنامجها، وهو أمر واضح في رد مؤسسها الإمام حسن البنا على أسئلة تتعلق بهيئة الإخوان التنظيمية، فأجاب بأن الإخوان «دعوة، وجمعية خيرية، ومؤسسة اجتماعية، وحزب سياسي». وأدى عدم وضوح هوية الحركة السياسية إلى تعطيل الكثير من أنشطتها التي تراوحت بين العمل الاجتماعي والدعوة إلى الدين والقيام بمهمات خيرية والتصرف كحزب سياسي منظم وأحيانا كهيئة تحاول الوصول إلى بعض مقاعد البرلمان لإيصال صوت دعوتها ولم تطمح في الوصول إلى السلطة. لذلك حسمت الحركة موقفها باكرا من مسألة خوض الانتخابات وترشيح الأعضاء للبرلمان والاحتكام إلى صندوق الاقتراع لاختيار العناصر الصالحة التي يجد فيها الشارع الفئة الجديدة القادرة على خدمة الأمة، لكنها تأخرت في حسم موقفها من الديمقراطية. فالبرلمانية وسيلة من وسائل التمثيل الشعبي القائم على الاختيار الحر لأعضاء المجلس النيابي بينما تعتمد الديمقراطية على منهج عمل وممارسة تراهن على آلية غير واعية لإعادة تشكيل المجتمع وتحديد الموقف من الآخر المختلف، وتفترض القبول باللعبة السلمية لتداول السلطة وحق الأقلية في التعبير عن نفسها سياسيا.
على رغم الفارق بين المسألتين شكلت خطوة القبول بالبرلمانية بداية سياسية للإخوان أدت لاحقا إلى قبول الحركة بالديمقراطية وشروطها التنظيمية التي تتطلب الحد الأدنى من البرنامج التسووي وعقلية المساومة وما تقتضيه من تحالفات مع الخصوم السياسيين أو الائتلاف مع قوى لا تتفق ايديولوجيا مع خط حركة الإخوان وطموحاتها. وساهمت الملاحقات والاعتقالات والضربات العنيفة التي تلقتها الحركة منذ تأسيسها في تأخير الكثير من المسائل، إذ كانت القيادات تنصرف إلى حماية نفسها بدلا من إنضاج أفكارها المتعلقة بقضايا المواطن وحقوقه السياسية وخصوصا مسألة التعددية.
إلى ذلك ساهمت الظروف الدولية والإقليمية وأنماط الأنظمة العربية (النخبوية الانقلابية) التي لا تقبل بالمعارضة في تعطيل فرص نمو الفكرة، فانعدام وجود المجتمع السياسي عطل إلى حد كبير نضج فكر سياسي يتطور سلميا وبهدوء كما يحصل في المجتمعات الأوروبية. فالديمقراطية لا تنمو في مجتمعات غير سياسية ترفض الأنظمة فيها حرية الحركة للخصم وحقه في التفكير ولا تكترث بالرأي العام ودوره في صوغ القرارات الرسمية.
على الدولة الحديثة (النخب الحاكمة في الدول العربية) استيعاب الأزمة المركبة وفهم أهمية دور المعارضة السياسية في المشاركة بحلها كما يحصل في تركيا. فالمعارضة في النهاية ليست عدوة للدولة بل هي شريك في الحياة العامة وتقرير مصير المجتمع، وما يصيب المجموع يصيبها وهذا ما حاول حزب النهضة التونسي توضيحه من خلال تطوير مفهومه لفكرة الديمقراطية وربطها بالهوية الثقافية والتنمية الاجتماعية وكذلك تطوير فهمه لموضوع حكم الأكثرية. فالقول إن الديمقراطية ليست حكم الأكثرية أو الغالبية السياسية فقط بل هي حق الأقلية السياسية أو الدينية في المشاركة في صنع القرار السياسي أيضا هو خطوة صحيحة في الاتجاه التصالحي لطمأنة الدولة والقوى المعارضة الأخرى وعدم تخويفها بالأكثرية السياسية والغالبية العددية.
ربما فكرة الديمقراطية التوافقية التي تقوم على مبدأ التراضي السياسي في سياق تأسيس صيغة برلمانية - دستورية تضمن لكل الفعاليات والجماعات حقها في التمثيل عن طريق تعديل خصائص الاقتراع وتطوير أشكاله لاستيعاب الخلافات واحتواء الاختلافات الدينية والمذهبية والأقوامية والجهوية حتى القبائلية، تشكل خطوة مرنة ومتقدمة تلبي طموحات الغالبية من دون أن تغبن حقوق الأقليات السياسية والعقائدية وتخيفهم. لابد من إعطاء الضمانات ودفع العلاقات نحو الطمأنة المتبادلة، إلا أن التسوية أو المصالحة بحاجة إلى فريقين لا فريق واحد، والتراضي هو توفيق بين سياستين، وهذه مشكلة الدولة (النخبة) وليست مشكلة المجتمع (الأهل).
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2107 - الخميس 12 يونيو 2008م الموافق 07 جمادى الآخرة 1429هـ