ما هي حدود التنازلات التي يمكن أن تقدمها إدارة باراك أوباما لإيران في حال قررت اتباع سياسة مخالفة لتوجهات إدارة جورج بوش؟ السؤال يتطلب قراءة في المكاسب المباشرة وغير المباشرة التي حققتها طهران خلال فترة بوش مرفقة بلائحة الأضرار التي أصابت إيران وهددت مستقبل أمنها الوطني واستقرارها الداخلي.
هناك اختلافات في تقدير الأرباح ومقارنتها بالخسائر. البعض يعتبر أن طهران حققت مكاسب كبيرة حين نجحت في توظيف استراتيجية التقويض التي اتبعتها واشنطن في أفغانستان وفلسطين والعراق ولبنان. والبعض يعتبر أن تلك الأرباح الميدانية لا قيمة استراتيجية لها في حال مقاربتها مع الوقائع الجغرافية - السياسية التي أسستها الولايات المتحدة عسكريا على الحدود الإيرانية.
الاختلاف في تقييم النتائج يقوم أساسا على اختلاف القراءة. هناك وجهة نظر ترى أن المتغيرات التي فرضتها واشنطن بالقوة في أفغانستان وفلسطين والعراق ولبنان جاءت لمصلحة تقوية نفوذ إيران الإقليمي وتوسيع قاعدة دورها السياسي مقابل إضعاف الدول العربية وتهميش مكانتها التقليدية وتراجع تأثيراتها على الشارع العربي. وهناك وجهة نظر مضادة ترى في المتغيرات خطوة ميدانية لمحاصرة إيران جغرافيا وسياسيا وربما قد تتحول إلى قوة ضغط ترهب النظام وتعزله عن محيطه وتفرض عليه تنازلات لا يستطيع إلا تقديمها لإنقاذ قيادته من التفكك والانهيار.
الاختلاف في القراءة يشير إلى تعارض الرؤية بين الوجهتين. فهناك من ينظر إلى المتغيرات مرحليا ولا يتطلع إلى المستقبل، وهناك من يتطلع إلى المتحولات الأرضية انطلاقا من نظرة استراتيجية بعيدة المدى. وبسبب تعارض الرؤية تشكلت وجهة نظر تؤكد أن إيران ربحت من سياسة بوش وحققت مكاسب هائلة في أفغانستان (تحطيم حكم طالبان) وفي فلسطين (تكسير سلطة ياسر عرفات) وفي بلاد الرافدين (إسقاط حكم صدام وتمزيق هوية العراق العربية) وفي بلاد الأرز (إضعاف الدولة اللبنانية وتقطيع أوصال المشروع العربي).
الرؤية المضادة تؤكد حصول هذه المكاسب الإيرانية المباشرة ولا تنفي استفادة طهران من كل هذه «الفوضى» التي نشرتها واشنطن في المنطقة، ولكنها تضيف على اللائحة مجموعة خسائر غير منظورة تكبدتها القيادة السياسية في الدائرة التي تحيط بها. في أفغانستان مثلا تراجع حكم طالبان وانكفأ إلى الجبال والمرتفعات وتأسست مكانه مواقع عسكرية متطورة (قواعد ومراكز اتصالات ومراقبة) تهدد أمن الحدود وتزعزع الاستقرار وتضغط على طهران للتراجع وتقديم تنازلات مقابل إعطاء ضمانات تحت سقف المشروع الأميركي. كذلك في العراق حققت إيران نتائج باهرة وأصبحت الشريك الأول في التأثير على قرارات السلطة البديلة عن حكم صدام ولكنها أيضا أصبحت مطوقة لوجستيا حين انتشرت القوات الأميركية وأسست مهابط طيران وقواعد عسكرية متطورة تستطيع استخدامها للضغط أو التخويف. حتى في فلسطين ولبنان يمكن تقديم تفسيرات غير متطابقة لقراءة النتائج في المكانين. صحيح أن إيران اكتسبت سمعة من دون دفع تكاليف بشرية وعمرانية إلا أنها اضطرت إلى اقتطاع مئات الملايين من مواردها وموازنتها لتغطية نفقات معارك بالوكالة بغية استخدامها ورقات مساومة في مفاوضاتها مع أميركا.
الصورة مشوشة ويمكن النظر إليها من زوايا مختلفة تتراوح ما بين الربح والخسارة. إلا أن القراءة العقلانية تشير دائما إلى عدم وجود ربح مطلق وخسارة كاملة في السياسة. وبهذا المعنى المنطقي يمكن القول إن إيران كسبت نسبيا على المستوى المرحلي وخسرت نسبيا على المستوى الاستراتيجي. وبسبب هذه النتيجة النسبية المركبة تعيش قيادة إيران السياسية حالات من القلق والاضطراب من جانب وحالات من النشوة والاطمئنان من جانب آخر. فمن الناحية الأولى تطلق تصريحات ايديولوجية تهدد المنطقة بالحرق والإغلاق والدمار وتتصرف بأسلوب عشوائي يعكس مخاوف ولا عقلانية. ومن الناحية الثانية تحاول أن تظهر في موقع المنتصر والقوة الإقليمية القادرة على فرض شروطها على الدول الكبرى وإجبارها على الخضوع لمشروعها الخاص.
الايديولوجيا والواقع
بين الصواريخ الايديولوجية (القنابل الدخانية) والحقائق الميدانية هناك مسافة زمنية تفصل بين الأقوال والوقائع تتمظهر أكثر ما يكون في تجنب طهران من التورط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة حتى لا تسقط في امتحان رهيب كذلك التهرب من الإجابة عن أسئلة عربية وفلسطينية ولبنانية وخليجية تتعلق بموقعها ودورها ونفوذها. والغموض في السياسة يعني أن طهران لم تحسم أمرها وهي تراهن على عامل الوقت وتنتظر بفارغ الصبر انتهاء فترة بوش لتدخل في إطار لعبة المفاوضات المباشرة والواضحة مع إدارة أوباما.
نعود إلى السؤال: ما هي حدود التنازلات التي تتوقعها القيادة السياسية الإيرانية من أوباما كذلك ما هي العطاءات التي يمكن أن تقدمها واشنطن في إدراتها الجديدة لطهران؟
الجواب سيكشف عن الإمكانات والحدود. فإذا كانت إيران مستفيدة ورابحة وحققت مكاسب طائلة من سياسة بوش فإنها قد تنجح في الضغط على أوباما وأخذ ذاك الاعتراف الأميركي بدورها الإقليمي ونفوذها الخاص في تقرير مصير المنطقة وجوارها الجغرافي. وإذا كانت إيران خائفة ومتورطة وضعيفة وتريد النجاة بنظامها ضمن صفقة مع الولايات المتحدة فإنها ستضطر إلى تقديم تنازلات مهمة تتعلق بالملف النووي وأمن «إسرائيل» وسمعتها الإعلامية لحماية حدودها من الاختراق الأميركي. وبين الاعتراف والاختراق هناك خيط سري لابد من رؤيته في سياق ظهور نوع من الحرب الإقليمية الباردة في دائرة «الشرق الأوسط».
هذا جانب من الصورة. الجانب الآخر يتصل بإدارة أوباما ومدى قدرتها على تجاوز الثوابت الاستراتيجية باتجاه عقد صفقة إقليمية كبرى مع إيران مقابل تراجعها عن مشروع التخصيب وقبولها بالضغط على الحلفاء لوقف المواجهة المتقطعة لضمان أمن «إسرائيل» وزعزعة الاستقرار في فلسطين ولبنان. فهل إدارة الحزب الديمقراطي جاهزة للدخول في صفقة كبيرة من هذا النوع أم أنها محكومة بسقف المصالح الأميركية الكبرى التي تديرها «لوبيات» مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة وأسواق المال (البورصة)؟ الجواب ليس بحاجة إلى عناء في التفكير وخصوصا في دولة كبرى تخضع سياستها الخارجية لتوازن المصالح وتنوع مصادرها وأسواقها ومراكزها ومعابرها ومنافذها وقواعدها. ولهذا السبب يرجح ألا تحقق القيادة السياسية الإيرانية الكثير من المكاسب التي تتوقع الحصول عليها في عهد أوباما حتى لو قرر تقديم عطاءات وتنازلات وتطمينات وضمانات. فالإدارة الأميركية في رؤيتها الجديدة المحتملة لا تستطيع أن تتراجع إلى حدّ يتجاوز الرؤية الأوروبية وما قدمته من «حوافز» لطهران. أكثر ما يستطيع أوباما تقديمه هو تأكيد التزامه بتحقيق تلك الوعود الأوروبية وما صدر من استعداد على الانفتاح وفك العزلة عن إيران. وغير ذلك تكون واشنطن دخلت في إطار آخر من التفاوض لا يعطي أهمية للتوازنات الدولية.
احتمال انتقال التفاوض الأميركي مع إيران من السرية إلى العلنية مسألة واردة وهي أفضل لدول المنطقة العربية لأنها على الأقل تلقي الأضواء على تفصيلات تحتاج إلى توضيح وترسيم. إلا أن التفاوض محكوم في النهاية بالإمكانات والحدود والشروط وهي في مجموعها تخضع لأحكام مختلفة الموازين والنسب تأخذ في الاعتبار توازن المصالح ومدى استعداد الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية والمنظومة الإقليمية والقوى العربية والمحيط الجغرافي والجواري على تقبل وتفهم كل تلك التعهدات المتوقع حصولها ميدانيا أو صدورها في بيانات. فالشروط الدولية والأميركية والأوروبية والإقليمية تلعب دورها في تحديد قواعد التفاوض التي يريد أوباما اعتمادها. وهذا الأمر يتطلب الانتباه لمعنى الربح والخسارة وبالتالي عدم الإفراط في المبالغة سواء من جهة مراهنة إيران على أوباما أو من جهة افتراض أن الولايات المتحدة ستبقى ثابتة ولن تتغيّر. فالرهان الإيراني غير دقيق لأنه يتصوّر السياسة خارج نطاق المصالح، وفرضية الثبات غير صحيحة لأنها تتصوّر المصالح خارج نطاق السياسة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2301 - الثلثاء 23 ديسمبر 2008م الموافق 24 ذي الحجة 1429هـ