اعطيني كفّكِ يا جوهرةَ اللّيلِ، وزنبقةَ البلدانْ
نعترفُ الآنَ
بأنّا كُنّا ساديّينَ، ودمويّينَ...
وكُنّا وكلاءَ الشيطانْ
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ
قومي من تحتِ الرَدمِ، كزهرةِ لوزٍ في نيسانْ
قومي من حُزنكِ...
إنَّ الثورةَ تولدُ من رحمِ الأحزانْ
قومي إكراما للغاباتِ
وللأنهارِ
وللوديانِ
قومي إكراما للإنسانْ
إنّا أخطأنا يا بيروتُ
وجئنا نلتمسُ الغفرانْ...
هذا ما خطر على بالي من قصائد شاعر الغزل نزار قباني، وأنا أغادر عاصمة الأرز (بيروت) التي تغزل فيها ملوك الشعر وغار منها ملوك السياسة... بيروت مجروحة دوما، ولكن ثغرها عاد باسما.
لا اعرف هل من حسن الحظ أم من سوئه، أن نتأخر في رحلة العودة من بيروت على الطريق الجديدة (التي شهدت مناوشات متقطعة بين الشباب على ضفتي الشارع قبل ليالٍ) وكنا قد اضطررنا للانتظار نصف ساعة ليمر موكب الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي حرص أن يكون أول زعيم يصل بيروت بعد انتخاب رئيس الجمهورية ميشال سليمان، ولا أعلم - والجميع ربما كذلك - ما الذي دفع ساركوزي لقراره عدم اصطحاب عشيقته، هل يريد صداقة بعيدة عن الضوء... هل يريد أن يأكل قسما من الكعكة... هل لأنه جاد هذه المرة أكثر من مواقفه النقيضة للعرب، هل أراد أن يحلم وحيدا لإعادة ثقل باريس في هذه المدينة، أم أن السيد ساركوزي يعشق بيروت أكثر من غريمته؟ وعلى كل حال فإن الجواب قد لا يعرفه إلا ساركوزي وعشيقته!
اللبنانيون الذين فرقتهم السياسة، وفرقتهم تضادات المصالح بين الشرق والغرب الذين يريدون لبنان ساحة لتصفية حساباتهم، بات يجمعهم تفاؤلهم الحذر من النهاية السعيدة للفتنة التي عملت على حياكتها مخابرات عربية وغربية، ولولا ما بقي من رشد لما حدثت معجزة الدوحة ولهلك لبنان لا قدّر الله، ولسال دمٌ محرم بين أبناء هذا الوطن الساحر وفي جماله الأخاذ.
بيروت تنتظر زواجا سياسيا قد يكون مضطربا ولكنه حتمي من وحي الواقع والضرورة، زواج لابد أن يحدث بين غريمين دائمين ولكن قدرهما أن يعيشا معا، وعلى رغم الهالة الكبيرة من الهواجس التي تثيرها العواصم والفضائيات من امكان صمود اتفاق الدوحة، وخصوصا بعد التعثر الذي طرأ في تشكيل الحكومة وحصص كل طائفة منها، فإن الخريطة السياسية الصعبة جدا والمعقدة أكثر والمتنوعة ستظل تفرض نفسها ولا يمكن لأحد أن يشطب بجرة قلم الآخر.
الناس هنا - أو على الأقل المسنين الذين يفضلون مقاهي شارع الحمرا - لايزالون يتذكرون أيام قتال الإخوة - الأعداء في سنين الحرب الأهلية المرة، ومن البديهي أن لا أحد هنا يريد لذلك العهد أن يعود الا من يتآمرون على لبنان في الداخل والخارج.
هنا في بيروت، الجغرافيا تكذب الإعلام، ليس من قطيعة في بيروت، ولا عساها أن تحدث، والدليل عشرات الأمتار الفاصلة بين منزل النائب سعد الحريري في قريطم ومنزل رئيس مجلس النواب وأحد أكثر أقطاب الرئاسات الثلاث ظهورا في مسرح الأحداث الأخيرة الرئيس نبيه بري، صحيح أن الحواجز الأمنية تحيط بكثافة على مقربة من منزل الرجلين، لكن الأرض لا تعرف تقطيع الأوصال السياسية.
الجيش الذي لعب دورا متوازنا باستمرار يبدو ماسكا بالأمور الآن وأكثر من أي وقتٍ مضى، في كل متر من أمتار بيروت كتيبة عسكرية تحرس كل شارع، وتزداد كلما زدت اقترابا من وسط بيروت (الداون تاون)، وهي قلب بيروت النابض بالحياة، وهي حي تجاري - سياسي في آن واحد، ففيه ساحة النجمة (مقر مجلس النواب اللبناني) الذي شهد ولادة عسيرة لحل طال انتظاره، وفي هذا الحي أيضا السرايا الحكومي حيث شهد اعتصاما لمئات الآلاف من أنصار المعارضة الذين أحاطوه من كل جانب، ومن الجميل أن خيام ويافطات الاعتصام استبدلت بورود زرعها المعتصمون بعد إعلان قوى المعارضة فك الاعتصام وسط بيروت.
وفي هذا الحي الذي يمثل المظهر الجمالي للمدينة المتنوعة دينيا ومذهبيا وسياسيا وأثنيا أيضا، هنا تلتقي أجراس الكنائس مع مآذن المساجد، وهنا يفضل كثير من اللبنانيين وخصوصا الشباب منهم السهر حتى ساعات متأخرة من الليل للترويح عن النفس، ولترك الانقسام السياسي جانبا أو وضعه في «غير مطرح» كما يقول اللبنانيون هنا أو على الأقل تناسي موجة الغلاء الرهيبة التي يكتوي منها اللبنانيون جميعا، وبالنسبة الى كثير من اللبنانيين فإن ارتفاع سعر البنزين أهم من حصة هذا الطرف أو ذاك، وحسنا فإن كابوس الغلاء هم يشغل بال اللبنانيين من دون اعتبار لدين أومذهب أو طائفة.
هنا يطلق على المنطقة أيضا (السوليدر) وهي الشركة الرئيسية التي بنت الحي الأكثر جمالا في العاصمة، وفي الجانب الآخر من هذا الحي خيمة كبيرة منصوبة، حين تقترب منها تسمع تلاوة قرآن على مدار الساعة... انه قبر رئيس الوزراء الأسبق الراحل رفيق الحريري الذي عمل الكثير من أجل أن تكون هذه المنطقة منافسة لأجمل عواصم الأرض.
ثمة صورٌ كبيرة للرئيس الحريري على جدران الخيمة المكللة بالورود، وعبارة شهيرة أطلقها الرئيس الحريري قبل اغتياله إثر تفجير موكبه على مقربة من هنا «لن ينالوا من لبنانا»، واليوم يجب أن نتذكر النهج الذي اختطه الرئيس الحريري حين زاوج بين المقاومة والإعمار، وكان رقما صعبا في كل المعادلات.
بيروت عندما تقترب من ضاحيتها الجنوبية، حيث الثقل الرئيسي للمقاومة بقيادة حزب الله، ترى حجم الدمار الذي خلفته الصواريخ الإسرائيلية وكل تقنيات العصر الشريرة من أجل كسر شوكة المقاومة، تسرح لابد حين ترى حفرة بمقدار عشرات الأمتار، وهنا الشجرة الصامدة أيضا التي وقفت بالقرب منها سيدة لبنانية مسنة وهي تناشد عبر الفضائيات «وينكن يا عرب؟!»... والجميل في الأمر هنا أن المقاومة تعهدت بإعمار كل ما مسته الآلة الجوية الصهيونية، ولذلك سترى أمام كل مبنى متهاوٍ بفعل حماقة العدو رسما تخيليا لمشروع إعادة الإعمار الذي تشرف عليه مؤسسة (وعد) التابعة للمقاومة، وستقرأ أيضا عبارة «ستعود أجمل مما كانت»، وهو العهد الذي قطعته المقاومة وسيدها، وهو الآن آخذ في التحقق.
كمراقب إعلامي فحسب، لا يبدو لي أن الدولة عملت هنا بما يكفي، ولكن أهل الضاحية يرون أن الدولة لم تفعل شيئا، ولكن ليس وحدها الضاحية التي لم تطلها يد الدولة، وبغض النظر عن ذلك كله فإن الغريب أن وتيرة خلق المؤسسات التنموية والخدمية في الضاحية تسارعت بعد حرب تموز.
وفي الضاحية أيضا، رسالةٌ أوصلها المرجع اللبناني السيد محمد حسين فضل الله من محرابه في جامع الحسنين حين خاطب زعماء الطوائف: «يتحدثون عن الزعامات وعن الكراسي وعن الحصص ويتحدثون عن مقعدٍ لهذه الطائفة ولهذا المذهب ولهذه الجماعة أو تلك، لكنهم لا يتحدثون عن وزير لكل لبنان وعن وزارة لكل اللبنانيين»، وهي دعوةُ لا يتبناها فضل الله وحده بل هو حال من يراد لهم أن يكونوا وقودا حين التخاصم.
وينتظر اللبنانيون صيفا سياحيا ساخنا لا كما صورته قيادة الحرب في تل أبيب وعلى رأسها ايهود أولمرت، وإذا ما صدقت نبوءة اللبنانيين فإن لبنان سيضمد جراحه وسيتعافى سريعا، وسيعوض ما فات منذ حرب تموز وذروة الانقسام بين الفرقاء اللبنانيين.
وتبشر كل الأخبار هنا في بيروت بموسم واعد، فضلا عن أن الكثير من رؤوس الأموال الخليجية خصوصا عادت وستعود إلى لبنان، ومطلوب من العرب جميعا ألا يتركوا لبنان وحده أو في أضعف الإيمان ألا يتآمروا عليه مع حلفائهم الكبار الذين يمتهنون افتعال الأزمات لتأمين وجودهم في المنطقة إلى أجلٍ غير مسمى.
الحراك السياسي في بيروت تحلم أن تجده في أية عاصمة عربية أخرى، وهنا الكل سياسي حتى النخاع إلا من رحم ربي، وربما أكثر من يعبّر عن هم اللبنانيين هم سواق التاكسي الذين يحدثون ضجيجا جميلا في كل شوارع بيروت، ولكنهم يأملون ألا يقود العمى لبنان إلى شفير الهاوية كما يطمح من في قلوبهم مرض.
في أزقة بيروت وفي حاراتها وفي شوارعها وفي مقاهيها وفي كل شبر منها، كم اختلجني تساؤل حائر: لماذا أنت يا بيروت مطمع لكل صاحب مطمع؟... الآن والآن فقط قد عرفت، سيظلون يلاحقون جمالك ومقاومتك ويحاولون أن ينالوا من شرفك... ولكننا واثقون أن شجرة الأرز المجروحة ستعود لتعلمهم درسا آخر... ونقول للعرب وللغرب: ابدأوا التكقير عن جناياتكم كما دعاكم قباني من قبل في دعاء التوبة الجميل «إنّا أخطأنا يا بيروتُ... وجئنا نلتمسُ الغفرانْ»!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2104 - الإثنين 09 يونيو 2008م الموافق 04 جمادى الآخرة 1429هـ