تلقيتُ خبر فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد فجر اليوم التالي لعملية الاقتراع. وقبلها بساعات كُنت أخلُد إلى النوم وأذني مُشنّفة بما يقوله مراسل إحدى الإذاعات العالمية (مستشار نوري المالكي حاليا) وهو يؤكّد أن معلوماته الخاصة تشير إلى أن الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني في طريقه إلى الفوز في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التاسعة.
النتائج كانت بالتأكيد مُذهلة وصادمة للكثيرين في الداخل والخارج. وقد كتبتُ حولها - آنذاك - قراءات عدة باتجاهين، الأول يقرأ إرهاصات تلك الانتخابات ونتائجها واستحقاقاتها، والثاني ينقد علاقات الرئيس الجديد بالأحزاب المحافظة وتحديدا مع جمعية علماء الدين المناضلين (روحانيت مبارز).
ثم لاحظت عددا من تمظهرات العهد الرئاسي الجديد. فقرأتُ مسألة «ترييع» جزء من الإنتاج لصالح «الأطراف والمُهمّشين» ممن أثّرت عليهم آلة التحوّل الاقتصادي من التأميم إلى الخصخصة بعد انتهاء الحرب في أغسطس/ آب 1988. وأخرى تناولت علاقة الرئيس بفريقه التنفيذي.
اليوم أقرأ «خارج» أحمدي نجاد، وهل أن الرجل كان «ضرورة» إيرانية و «فرصة» عربية أم أنه على العكس من ذلك؟
نجاد اليوم يتسيّد على إحدى أهم ثلاث قوى في المنطقة، إيران وتركيا بصفتهما وعائين جغرافيين أصيلين، ومعهما دويلة الكيان الصهيوني التي تتنفّس عبر الرئة الأميركية منذ إنشائها قبل ستين عاما، وبالتالي إن لحاظ أمر نجاد بصفته رئيسا لإحدى تلك القوى بات يُشكّل مطلبا مُلحّا لفهم سلوكه السياسي.
كثيرٌ من الاختزال قاد أحدهم لأن يُصوّر الخاتمية قياسا مناسبا للكلينتونية، وأن النجادية هي أنسب الخيارات لمواجهة اليمين المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة. وإذا ما أردنا تفكيك ذلك الاختزال والخيار معا فإن الأمر يتطلب صورة أخرى من الرصد والتقويم.
عندما جاء أحمدي نجاد إلى السلطة كانت متغيرات إيران الداخل وإيران الإقليم وإيران العالم تعتمل نحو صيغة جديدة من التموضع بين زوايا حادة وأخرى ناعمة. وكانت ظروف الداخل مصحوبة بمثيلتها في الخارج القريب والآخر البعيد تَشِي بضرورة «توسيع الأزمات» بغرض حلّها، بالضبط كما هي نظرية آيزنهاور.
على مستوى الداخل، إن الملف الذي كان ينتظر الرئيس الجديد هو استحقاق ما أعلنه محمد خاتمي في مارس/ آذار 2005 (أي قبل شهر من انتهاء ولايته) بأنه سيعاود عمليات تخصيب اليورانيوم بعد انقضاء المهلة التي أعطتها إيران للدول الأوروبية المعنية بتقديم مقترحاتها بغرض توقيع اتفاق طويل الأمد بين الطرفين؛ مما حتّم على أحمدي نجاد أن يفك أختام جميع أقسام منشأة أصفهان النووية (يو. سي. إف) في أغسطس 2005 أي بعد ثمانية عشر يوما فقط من تنصيبه رسميا رئيسا للجمهورية الإسلامية، وارتباط ذلك «الداخل» الإيراني بالمحيط الدولي.
في الجوار كان العراق ينهار، والاحتلال يتكرّس. ولم يجد حتى القيّمون عليه سبيلا لإنهاضه على غرار ما حصل من إعادة لنفخ الروح في تيمور الشرقية في آسيا والبوسنة وكوسوفو في أوروبا، وسيراليون في إفريقيا. وبانهيار مركز العراق أصبح المنطق الاستراتيجي يتّجه نحو تمدّد جواره «القوي» تلقائيا إلى نواته وحوافّه.
المسئولية الإيرانية كانت مزدوجة ومتعددة في العراق. فهي مُلزمة أن تُطيح بالمشروع الأميركي داخل العراق عبر إعاقته وزيادة كلفته لتمييع أية رغبة أميركية في ضرب إيران، ومُلزمة أيضا أن تبارك للحكّام الجدد أمرهم (وهم حلفاؤها التاريخيون) لكي تضمن صوغا معينا وآمنا لعراق ما بعد البعث، وبهم تستطيع أن تُميت عسكرتاريا منظمة مجاهدي خلق وحزب بيجاك الكردستاني، أو على أقل تقدير أن تدير معركتها معهم كما هي تريد وبأقل الخسائر ضمن بطن جغرافي رخو.
في لبنان اغتيل رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005، فتلته تداعيات مهمة. استقالت حكومة عمر كرامي المحسوب على سورية بعد أربعة عشر يوما، وخرج الجيش السوري من لبنان بعدها بشهرين، ثم جرت الانتخابات التشريعية في 29 مايو/ أيار من العام نفسه بتحالف رباعي بين تيار المستقبل والحزب التقدمي وحزب الله وأمل فانفرط هذا التحالف ليحلّ مكانه تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر في 7 فبراير 2006، ثم وقعت حرب يوليو/ تموز بعد خمسة أشهر واستمرت 33 يوما.
بطبيعة الحال إن خروج الجيش السوري من لبنان قد غيّر نمطية سياسية كانت سائدة منذ العام 1982. وبات على الإيرانيين اليوم دخول لبنان ليس عبر البوابة السورية، وإنما عبر الواقع الجديد الذي دخلت فيه الولايات المتحدة الأميركية بقوة عبر حلفائها في قوى 14 آذار، أو على الأقل ما أسمّيه «مرور الضرورة» لتخطّي رقابهم وأمام سمعهم وبصرهم.
في فلسطين باتت حماس تُسيطر على قطاع غزة منذ منتصف يونيو/ حزيران 2007. وقد شكّل ذلك منعطفا مهما في مسيرة الصراع الفلسطيني الصهيوني. فالصواريخ التي كانت تُطلق منذ سبع سنين باتجاه سديروت ونتيفوت أصبحت مراميها تصل إلى عسقلان. وباتت ازدواجية مراكز القوى والسلطة محل قلق داخلي وإقليمي، دفعت مصر لأن تصرّح بأن لها حدودا مع إيران (راجع حديث الرئيس المصري محمد حسني مبارك لدبلوماسي أوروبي نقلته صحيفة «هآرتس» الصهيونية في 26 مارس الماضي).
أمام هذا الواقع الإقليمي المعقّد وكيفية التعاطي معه وفق نظام المصالح وبأقل الخسائر يُقرأ الرئيس أحمدي نجاد وليس عبر شيء آخر؛ لأنها معامل الاختبار الحقيقية لسياسات الدول وفي طريقة إدارتها لها.
في الملف النووي الإيراني كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية والترويكا الأوروبية تستنكران على إيران تركيب جهازي طرد مركزي في عهد الرئيس خاتمي. أما اليوم وفي عهد الرئيس أحمدي نجاد فإن إيران تُشغّل ستة آلاف جهاز طرد مركزي، وتطابق عمليات التخصيب وعمل أجهزة الطرد مع نظام الأمان والمرفق المتعلق بالمنشآت النووية.
في عهد الرئيس خاتمي قامت الدنيا ولم تقعد على أبحاث معملَي آراك ونطنز، أما اليوم فإن الوكالة تقول إن النص القانوني الملحق بمنشآت نطنز والمتعلق بعمليات التفتيش النهائية قد تم تنفيذها. في عهد الرئيس خاتمي كان موضوع البلوتونيوم مُشكلة المشاكل، أما اليوم فإن هذا الموضوع قد أنهِي منذ شهر سبتمبر/ أيلول 2007 (راجع تقرير البرادعي الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2007).
في العراق أصبحت إيران حَكَمَا وحاكما. وكل من يتهم طهران سواء من الأميركيين - الذين جلسوا معها ثلاث مرات في محادثات رسمية مُضطرين - أو العراقيين باتوا يقصدونها عند الأزمات (اتفاق البصرة ومدينة الصدر مثالا).
الإيرانيون في العراق بات لديهم جزء من أزرار الحرب والسلم حتى تشكيل الحكومات أصبح لديهم رأي وقرار (ترجيح كفّة الجعفري على عادل عبدالمهدي مثالا). في الأمور الاقتصادية والثقافية حتى الدينية بات لديهم نصيب وافر أيضا.
منظمة مجاهدي خلق أصبحت تحت الإقامة الجبرية في معسكر أشرف. وحزب بيجاك الكردستاني المعارض بات التعامل معه سهلا في مناطق رزكه وماردوو وشناوه في الشمال العراقي وسط استدارة مقصودة من حكومة كردستان.
وفي ما يتعلّق بالاتفاق الأمني الذي تريد واشنطن توقيعه مع العراق وبعد تصريحات علي أكبر ولايتي، ثم تصريحات هاشمي رفسنجاني المُحذّرة من عواقبه، فقد ثوّر القضية على مستوى الإقليم ومستوى الشارع العراقي الذي كان مُغيّبا عن تفصيلاته. وباتت أزمة الاتفاق تدور حول رأي المرجعية والنخب العراقية ومؤيدي الأحزاب.
في لبنان الذي بشّرت فيه وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بالشرق الأوسط الجديد يبدو أن الأمور سارت بعكس اشتهاء الإدارة الأميركية. فتورطت تل أبيب في حرب خاسرة ضد حزب الله في يوليو 2006، انتهت إلى لجنة تحقيق وهذيان عن هزيمة جيش الدفاع أمام بضعة آلاف من مقاتلي حزب الله (راجع تقرير فينوغراد). طبعا، لا يستطيع عاقل أن يُباعد بين نصر حزب الله في هذه الحرب والشيك الإيراني المفتوح سواء في المال أو السلاح.
كما أن الدعم الغربي لقوى 14 آذار لم يستطع أن يُميّع أوضاع حلفاء سورية وإيران أو إنقاص قوّتهم، وانتهى الأمر إلى القضاء على قوة الموالاة خارج السلطة في بيروت والجبل خلال ساعات، والذهاب إلى الدوحة لتوقيع اتفاق شراكة لبّى جزءا من شروط المعارضة الحليفة لسورية وإيران.
في غزة باتت العمليات التي تجري هناك لافتة للكيان الصهيوني، وخصوصا تلك العملية التي نفذتها حماس، وكادت توشك على أسر جنديين صهيونيين. كما أن عملية «شتاء حار» التي نفّذها الجيش الصهيوني في مارس الماضي على قطاع غزة قد أظهرت أن قدرات حماس باتت تُذكر الصهاينة بجيش نظامي ومدرّب كامل الجهوزية (راجع تقرير مدير دراسات مركز الإرهاب والاستخبارات التابع لمتحف المخابرات الإسرائيلية رؤوفين ايرليخ). وإذا ما أراد أولمرت أن يقوم بعملية أخرى في القطاع كما يُصرّح هذه الأيام فإن التقرير سيُثبّت ما قاله مرة أخرى.
طبعا، إنني لا أكرّر ما قاله تقرير ايرليخ عن الدعم اللوجستي الضخم الذي تقدمه إيران لحركة حماس، ولكنني في الوقت نفسه أفهم أن حلفا من نوع خاص قائما بين طهران والحركة ضمن محور سوري إيراني ينشط في المنطقة.
وفي ظل تباعد كل من السلطة الوطنية الفلسطينية ومصر والأردن وهما خطّ التماس السياسي والجغرافي مع القطاع فإن اللاعب الحقيقي في هذه المعركة سيُعرف حتما، وسيُعرف أيضا أين يقف ومتى يتحرك وإلى أين، فالأثر يدل على المسير.
هذه المعطيات السياسية «الإقليمية» هي المجسّات المناسبة والموضوعية التي من خلالها أستطيع تقويم حركة إيران السياسية منذ انتخاب الرئيس التعميري أحمدي نجاد التي وقعت كلها في عهده، وتعاملت معها وزاراته وخطاباته.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2103 - الأحد 08 يونيو 2008م الموافق 03 جمادى الآخرة 1429هـ