العراق اليوم على مفترق طرق، إما أن يكتب خلاصه بيده، وإمّا أن يدخل وتدخل معه المنطقة في حقبةٍ طويلةٍ مظلمةٍ من العبودية والتبعية الكاملة للأميركان.
خمس سنوات من الاحتلال، نزف فيها العراق الكثير من الدماء، وتخبّط في خلافاته الصغيرة، وابُتلي بعاصفةٍ هوجاءَ من أعمال الذبح والقتل والإرهاب، هدّدت بإسقاطه في أتون حربٍ أهليةٍ تحرق ما تبقى من أرض السواد.
الحكومة العراقية وقّعت نهاية العام 2007 بالأحرف الأولى اتفاق "الشراكة الاستراتيجية"، الذي يمنح الأميركيين وجودا عسكريا طويل الأمد، بزعم "ضمان استقرار العراق الداخلي" و "حمايته من التهديدات الخارجية"، ووُصف ذلك بأنه "إعلان مبادئ للصداقة والتعاون" بين بلدين تربطهما حاليا علاقة تحكّم واحتلال وفرض أمرٍ واقعٍ بالقوة.
هذا ليس أول احتلال للعراق، فهذا البلد المنبسط في غالبية أراضيه من أسهل البلدان اختراقا وسقوطا بيد الغزاة عبر التاريخ، ولم يوازن نقطة الضعف هذه إلاّ إرادة التحدي والمقاومة لدى العراقيين، التي لعبت دورا حاسما في تاريخه.
قد يغضب ذلك العراقيين، ولكنها ضريبة الجغرافيا، فباستثناء المنطقة الجبلية في الشمال، أنت أمام أرضٍ منبسطةٍ تتوزّع بين المستنقعات المائية في الجنوب، والأراضي الصحراوية في الغرب، وبقية السهوب والأراضي الزراعية التي أعطت للعراق اسمه التاريخي "أرض السواد".
اليوم، يقف العراق على مفترق طرق، إمّا التحرّر الكامل، وإمّا التبعية الطويلة، وما يعنيه ذلك من إخضاع للمنطقة كلها للاستعمار في آخر نسخه الحديثة. هذه النسخة التي تكشّفت عن مخططٍ يقضي بزرع خمسين قاعدة عسكرية أميركية في بلدٍ عُرف عنه جموحه وتمرّده الدائم على الخضوع.
الجانب الأكثر بشاعة ما تسرّب من موادَّ تمسّ صميم الكرامة لدى العراقيين، فبمقدور القوات الأميركية - بحسب الاتفاق - اعتقال أي مواطن عراقي، وشنّ حملات عسكرية دون الرجوع للحكومة العراقية، والسيطرة على المجالات الجوية والبرية والبحرية، وهو ما يمسح بالقرار السياسي العراقي الأرض.
الجانب الآخر يتعلق بعدم خضوع الجنود أو المتعاقدين الأميركيين للمساءلة القانونية؛ مما يعني حصولهم على حصانةٍ تامةٍ من أيّة ملاحقة من قِبل القضاء العراقي، ومرة أخرى يعني ذلك مسحا للسيادة وشطبا للقرار المستقل للسلطة القضائية في العراق.
الحكومة العراقية - ككثيرٍ من الحكومات العربية الأخرى التي نراها - لديها قابلية الاستتباع للمشروع الأميركي، ولكن من حسن حظها أن لديها شعبا يمكن أن يقول كلمته برفض هذا الاتفاق ويعمل على إسقاطه، على عكس بقية الشعوب العربية المكبّلة التي لا تملك قرارها. فالمالكي - بحسب آخر التقارير - يواجه ضغوطا متزايدة من الأحزاب العراقية الشيعية للحد من السيطرة الأميركية على البلاد؛ بسبب حساسيتها التاريخية من الاستعمار. وهناك إجماعٌ بينهم اليوم على معارضة أي اتفاق تمسّ سيادة العراق.
هذا الإجماع دفع حكومة المالكي إلى إعلان عدم استعدادها لتلبية كل المطالب الأميركية، و "عدم التوصل إلى رؤية مشتركة مع واشنطن"، مع تأكيد "الحفاظ على كامل سيادة العراق وثوابته ومصالح شعبه وامتلاكه قراره الوطني".
السفير الأميركي نفى خبر السعي للبقاء العسكري الدائم في العراق، وقال إن هذا الوجود "لن يكون أبديا". طبعا لن يكون أبديا، وهذا ما سيقرّره العراقيون وليس الأميركان، فقد أزفت ساعة الحسم والجلاء.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2103 - الأحد 08 يونيو 2008م الموافق 03 جمادى الآخرة 1429هـ