لعلّ أكبر اكتشاف تستطيع أنْ تصل إليه بعد علاقة مباشرة لفترة من الزمن مع الحراك الداخلي في مجتمعنا، هو أنّ هذا المجتمع يأبى إلاّ أنْ يؤطرك في إطار معيّن مهما حاولت َجاهدا مناوئة « التأطير». من الصعب على الناس أنْ تقتنع بأنك بالفعل لا تحمل أجندة ما، تميل لهذه الجهة أو تلك، من الصعب عليهم أنْ يبتعدوا عن تقييمك بناء على مواقفهم الخاصة، ومدركاتهم الخاصة. والأصعب يقع عليك أنتَ، في محاولتك اليائسة لكي تقول إنني لا أنتمي بالفعل إلاّ لنفسي.
لعلّها تعتبر أصعب الأفكار إقناعا في مجتمعنا، المجتمع الذي يقوم في كثير من مفاصله على « التبعية»، دينية أو سياسية أو حتى اجتماعية. لو أردتَ أنْ تكون قويا ومؤثرا فلابدّ أن تكون تابعا لجماعة ما، تستمدّ قوّتك من قوّتها. وليس في الأمر أيّ سوء، فهي ممارسة تحصل في المجتمعات كافة وعلى الأصعدة جميعها. ولكنها بشكل عام تجعل حياديتكَ واستقلاليتكَ عن كل هذه التجمعات شبه مستحيلة، على الأقل في عيون مَنْ يراقبونك. ويزداد الأمر حساسية وحدة عندما تتعاطى مع الشأن السياسي، فهل أنت قادر بالفعل أنْ تنتقد تيارا بعينه ، فلا يُقال عنك بأنك منتم أو مائل ولو قليلا للتيار الآخر الذي يقف في مواجهته؟ وهل تستطيع بالفعل أنْ تتخذ موقفا سياسيا مؤيّدا أو معارضا لفئة أو تيار ما، فيحسب الأمر بأنه رأيك في الموقف وليس في هذا التيار أو ذاك؟ كلّها أسئلة جدلية إجاباتها تحتمل جميع الآراء. ولكن الواقع العملي هو المحك الرئيسي الذي يجيب عليها.
لا يُلام المجتمع في محاولته للتأطير أيضا، فالحراك الثقافي والمجتمعي والسياسي كلّه مؤطر وجاهز. وكل إطار يحاول أنْ يسحبك قليلا إليه؛ ليتلقف المتلقفون أيّ استجابة منك لتأطيرك، فإمّا أن تكون من جماعة فلان، أو جماعة علان. هذا هو المنطقي والطبيعي، بل والمريح أيضا، المجتمع يحاول أنْ يؤطرك؛ لأنه يريد أنْ يفهمك، تصبح أسهل على الفهم لو كنت محسوبا على جماعة ما، أمّا تحركك وحدك فيعني بأنك غامضٌ وغريب.
حضرتني هذه الفكرة وأنا أكتب العمود الأخير لي في هذه المساحة هذا الأسبوع. العمود الذي حاولتُ جاهدة أنْ أتنقل من خلاله في قضايا متنوعة تمس الشأن المحلي البحريني. بعيون حاولتْ جاهدة أن تبتعدَ عن التأطير والمواقف الجاهزة بقدر استطاعتها. عيون حاولتْ أن تقترب مما يقولون عنه « صورة متزنة» للأحداث والشخصيات والمواقف. ربما شطّت هذه العيون يمينا أو شمالا مراتٍ، وربما وقعتْ في أخطاء ما، ربما تعرضتْ للنقد، أو تعرضتْ للإشادة. والأحرى أن كل تلك الاستجابات الرائعة كانت هي دوما الوقود للاستمرار.
هل نستطيع أنْ نكون حياديين بالفعل في آرائنا؟ وهي يمكن أنْ يكون الرأي حياديا أصلا؟ سؤال آخر لا إجابة محددة إليه، سعيتُ طوال الفترة الماضية للإجابة عليه ما وسعني الإخلاص لذلك. ولعلّ تلك النفوس النقية والعقول الواعية كانت هي الأقدر على الفهم. قرّائي الأعزاء... ليس وداعا ولكن إلى لقاء قريب.
إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"العدد 2101 - الجمعة 06 يونيو 2008م الموافق 01 جمادى الآخرة 1429هـ