العدد 2100 - الخميس 05 يونيو 2008م الموافق 30 جمادى الأولى 1429هـ

الإدارة الأميركية: اتفاقية تشريع الاستباحة

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

تتحدث منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية عن انتهاكات الإدارة الأميركية للقرارات الدولية، والتي تصدّرت قائمة الانتهاكات عالميا، ومع ذلك فإن الرئيس بوش يدعو اللبنانيين إلى ضرورة الالتزام بالقرارات الدولية، ولا يسأل نفسه: ما مدى التزام إدارته بالقرارات الدولية، ولاسيما تلك المرتبطة بحليفته «إسرائيل»، كالقرار 194 المتعلّق بحق العودة للفلسطينيين، وعدم شرعية المستوطنات والجدار الفاصل الذي أكدت محكمة العدل الدولية، بأنه غير شرعي، إضافة إلى غزو العراق الذي أكد الأمين العام السابق للأمم المتحدة أنه غير شرعي أيضا، وصولا إلى السعي الأميركي المتواصل لمنع إصدار أيّ قرار يدين العدو الصهيوني حتى لو كان متصلا بالقضايا الإنسانية؛ حيث يُراد من مجلس الأمن أن يكون سيفا مسلطا على الضعفاء والفقراء، في حين يبقى الأقوياء والمستكبرون يتحكّمون بمفاصل استصدار قراراته، التي تأتي جائرة بحقّ الشعوب عندما لا ينسجم الحقّ مع مصالح هذه الدولة المستكبرة أو تلك.

ولذلك، فإنّ غياب أدنى مقوّمات المنطق والعدالة عن حركة السياسة الدوليّة، تفرض علينا - كشعوب وكأمّة - أن لا نسقط تحت تأثير التهويل بهذا القرار الدولي أو ذاك؛ لأنّ الحروب التي يشنّها المستكبرون على الأمّة وقضاياها تأخذ أكثر من شكلٍ وأسلوب.

وفي سياق الحملة الاستكباريّة الاحتلاليّة على واقعنا، تفرض الإدارة الأميركية في هذه المرحلة اتفاقية أمنية بينها وبين الحكومة العراقية، والتي أعدّتها في أوائل العام الحالي ليتم التوقيع النهائي عليها في أوائل يونيو/ حزيران، وتتضمّن السماح لواشنطن بإقامة قواعد عسكرية دائمة في البلاد، وتمنح الأميركيين الحصانة من الملاحقة القضائية، وتعطي الحرية لجنودها في اعتقال أيّ مواطن عراقي بتهمة الإرهاب من دون مراجعة الحكومة العراقية، وتجعل من العراق ساحة لانطلاق العدوان الأميركي على أيّ من دول المحيط.

وقد أطلقنا التحذير من هذا الاتفاق قبل أسابيع، وإننا نؤكد أنّنا لا نجد أيّ شرعية لمثل هذه الاتفاقية وكل اتفاقية أخرى، مهما كان مضمونها، إلا اتفاقية الانسحاب الشامل غير المشروط من العراق؛ لأن الاتفاقيات المعقودة بين دولة وأخرى، لا بد من أن تكون مشروطة بحرية الدولة الموقّعة عليها مع دولة الاحتلال؛ ولذلك فلا شرعية لأيّ اتفاق إلا بعد تحرير العراق، ودون ذلك، يكون الاتفاق باطلا، وعلى الحكومة العراقية أن ترفضه، وعلى الشعب العراقي أن يستنكره ويحتجّ عليه؛ لأنّه يبرر لأميركا بقاء سيطرتها على الأمن والاقتصاد والموقع الاستراتيجي في العراق، وهذا محرّم شرعا بكل الموازين.

إباحة لـ «إسرائيل» وتحريم لإيران

وفي موازاة ذلك، لا تزال أميركا، مع دول أخرى، تتحرك في الضغط على إيران في مشروعها النووي، باعتباره خطرا على العالم بحسب زعمها، في الوقت الذي يصرّح مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بأن الوكالة لم ترصد استخداما فعليا لمواد نووية فيما تزعمه الاتّهامات الغربيّة لها، ولكنّه - مع وكالته - يطالب بأجوبة محددة عن الأسئلة التي يراد منها التعرّف إلى أسرار المشروع النووي الإيراني السلمي، ما قد يؤدي إلى الإساءة إلى ما تتحرك به إيران في تعميق خبرتها العلمية التي يخشى الغرب من امتلاكها لها.

وفي هذا المجال، فإن العالم يتساءل: لماذا لم تُفرض هذه القيود على «إسرائيل» في مشاريعها النووية التي ساعدتها على تنفيذها كل من بريطانيا وفرنسا وأميركا، من دون أن تتحدث عن خطورتها على المنطقة العربية والإسلامية؟ حتى إن أميركا لم تحترم حلفاءها، وفي مقدمتهم دول ما تسمّيه الاعتدال العربي، الذين يطالبون بضرورة إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية، لأن أمن المنطقة لا يساوي عندها شيئا أمام التزامها بأمن «إسرائيل» وتفوقها النوعي. هذا في الوقت الذي صرّح الرئيس الأميركي الأسبق «كارتر»، بأن «إسرائيل» تملك مئة وخمسين نوعا من السلاح النووي في ترسانتها العسكرية، كما تملك الولايات المتحدة الأميركية اثني عشر ألف نوع من السلاح النووي، وتملك روسيا مثل هذا العدد، إضافة إلى فرنسا وبريطانيا اللتين تملكان ترسانة كبيرة من هذا السلاح.

والسؤال: هل من المعقول أن يكون المشروع النووي الإيراني يهدد العالم بالخطر لو تحوّل إلى صنع القنبلة، وهو لا يريد ذلك حتى من ناحية شرعية، بينما لا تكون تلك الترسانة النووية للدول الكبرى خطرا على العالم الذي عاش في الحرب العالمية الثانية تجربة الإبادة للأبرياء في اليابان من خلال قنبلة هيروشيما وناكازاكي؟

إننا نؤكد هذا الموضوع، لتحذير العالم، ولاسيما العالم الثالث الذي تسعى أميركا، ومعها الدول الكبرى، للسيطرة على اقتصاده وأمنه، من هذه الإمبراطورية الوحشية، وخصوصا في إدارتها الحالية التي تهدد معارضيها بالحروب المتنقّلة من مكان إلى مكان، وبالفتن المدمِّرة للشعوب في أوضاعها العامة.

أما في المشهد الفلسطيني، فقد وصف الرئيس الأميركي الأسبق «كارتر» الحصار المفروض على غزة بأنه يمثل «أكبر جرائم حقوق الإنسان على الأرض، كونه يعني سجن مليون وستمئة ألف فلسطيني»، داعيا إلى انفصال الاتحاد الأوروبي عن الولايات المتحدة الأميركية بشأن الحظر الدولي المفروض على القطاع. وقد كنا نتمنى أن يصدر مثل هذا التصريح الإنساني عن دول الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي الذين لم يتحركوا خطوة واحدة في الضغط الواقعي على مستوى المصالح الاستراتيجية للعرب والمسلمين في رفع هذا الحصار الذي يموت فيه الأطفال والمرضى يوميا نتيجة فقدان الغذاء والدواء.

إن المشكلة هي أن أكثر هذه الدول تخشى من الغضب الأميركي الذي لا يسمح لها بإدانة «إسرائيل» التي تمثل الوحش البشري الذي يفترس الشعب الفلسطيني، مطمئنا إلى أن العرب لن ينطلقوا للدفاع عن هذا الشعب، بل إنهم - بدلا من ذلك - يحاصرون المجاهدين من أبطال المقاومة والانتفاضة الذين يواجهون العدو الصهيوني بقوة الممانعة الجهادية لتحرير الأرض والإنسان من الاحتلال.

وفي هذه المناسبة، فإن خطورة الواقع في العالم العربي، تفرض على الشعوب العربية إنتاج ثقافة المقاومة وحركة التغيير ضد الذين يحوّلون بلادهم إلى سجن كبير لشعوبهم، من خلال قوانين الطوارئ التي تتجدد بين سنة وأخرى في المجالس النيابية التي يشبه انتخابها التعيين من خلال سيطرة أجهزة المخابرات، في الوقت الذي يعرف الجميع أن قوانين الطوارئ لا تُشرَّع إلا في حال الخطر الكبير على البلد، ولكنها في العالم العربي وبعض دول العالم الثالث، تخضع لحماية المسئولين من الخطر على عروشهم.

ومن جانب آخر، فإننا نبقى نراقب العالم الإسلامي في الحروب الداخلية المتحركة في أوضاعه، من خلال الخطط الاستكبارية التي تخطط لها أميركا في السيطرة على مقدّراته الاقتصادية ومواقفه السياسية، وهذا ما نراه - إضافة إلى العراق وأفغانستان - في السودان الذي يُراد له أن يتحرك في المشاكل الأمنية المتنقلة بين وقت وآخر؛ وكذلك بالنسبة إلى الصومال الذي يبقى الجرح النازف الذي فتحته أميركا ثأرا لهزيمتها في أرضه وشعبه، واستغلالا لموقعه الاستراتيجي في خططها في تلك المنطقة.

إن المشكلة في العالم الإسلامي، هي أن المسلمين مشغولون بقضاياهم المذهبية، وفتاواهم التكفيرية، وخلافاتهم التاريخية، مما يستغله أعداء الإسلام لإضعاف الأمة، وليس ذلك إلا من خلال التخلّف الديني والعصبية الضيّقة التي تشبه عصبية الجاهلية، وهذا ما يفرض على علماء الإسلام أن يواجهوه بالتوعية الثقافية الإسلامية التي توحي إلى المسلمين بالوعي لكل المخططات التي تستهدفهم في أمورهم العامة على مستوى الحاضر والمستقبل.

صيانة الوفاق ضرورة وطنية

أما في لبنان، فقد ظهرت بوادر حل الأزمة السياسية الداخلية، من خلال المبادرة التي فرضتها الأوضاع الإقليمية والدولية التي شعر القائمون عليها بأن مخططاتهم قد وصلت بهم إلى حافة الانهيار، بما يترتب على ذلك من امتداد الخطر إلى مواقعهم وخططهم السياسية، ولاسيما في المشروع الأميركي الذي عمل لإثارة الفوضى في لبنان والمنطقة.

وعلى اللبنانيين أن يحافظوا على ما أنتجوه من حلول واقعية التي من شأنها أن تدفع إلى التفاؤل بالمستقبل لحلّ الأزمات الاقتصادية والأمنية، وأن يطردوا من بينهم كل صانعي الفتن، وكل غوغائية الإعلام المثير للغرائز الذي لا يريد للناس أن ترتاح أو تستقر أو تنتصر أمام شياطين الاستكبار في العالم.

تحريم إطلاق الرصاص والمفرقعات

وأخيرا، أحبّ أن أذكّر بالفتوى الشرعية التي أصدرناها بتحريم إطلاق الرصاص والمفرقعات العنيفة في المناسبات السياسية، تحية لزعامات معينة أو لأوضاع محددة، وذلك من خلال النتائج السلبية التي تحصل من خلال ذلك، وقد تحوّلت المسألة في الظروف الأخيرة إلى مستوى الجريمة، من خلال سقوط الجرحى والقتلى، مما يتحمّل الفاعلون مسئوليته الشرعية. وعلى المعنيين أن يتحمّلوا المسئولية في منع كل هؤلاء العابثين بحياة الناس وراحتهم باستخدام كل الوسائل الشرعية المتاحة لذلك.

ومن جهة أخرى، فإننا نحذّر من كل الأعمال الاستفزازية التي قد تؤدي إلى إثارة الحساسيات السياسية والمذهبية؛ لأن ذلك يمثل جريمة في حق السلم الأهلي والتعايش الإسلامي. وفي موازاة ذلك، فإننا ندين كل الذين يحاولون إثارة الفتنة بين المسلمين، بفعل بعض الأوضاع الماضية، والتحدث بأسلوب سياسي مثير، بأن ما حدث في لبنان هو مجرد هدنة وليس انفتاحا على حلّ؛ لأننا نخشى من خلال كل هذه الكلمات التي قد تنطلق من دون دراسة حقيقية للوضع، بهدف تحريك بعض الأوضاع التي ينطلق من خلالها كل هؤلاء الذين يخططون لعملية استعادة الأزمة الداخلية خدمة للقوى الخارجية التي لا تريد باللبنانيين خيرا.

اللهم هل بلّغت؟ اللهم اشهد.

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 2100 - الخميس 05 يونيو 2008م الموافق 30 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً