تنقلنا أزمة الدولة العربية الحديثة وعلاقتها السلبية مع المعارضة إلى السؤال عن طبيعة التكوين التاريخي - الثقافي للمجتمع ودور الأخير في صوغ مستقبله.
أدى ضعف القاعدة الاجتماعية للدول العربية الحديثة إلى لجوء الدولة إلى الاستبداد السياسي لتعويض النقص في الشرعية الدستورية والتاريخية، فأقدمت على تشكيل قوة سياسية متراصة ايديولوجيا تعتمد المركزية الشديدة في تنظيم المجتمع وترتيب وظائفه وإخضاعه لرقابة السلطة وإشرافها الدائم (العراق نموذجا). فضعف بنية الدولة كان الدافع الأساسي نحو تعويض الضعف الاجتماعي بالاستبداد السياسي وتعزيز السلطة المركزية ومنع حرية الجماعات بقصد توحيدها لتوسيع قاعدة الدولة الاجتماعية فانتهى الأمر إلى إلغاء حق المعارضة في التحرك المستقل ضمن سياق المشترك بين الناس والدولة، فباتت الدولة أشبه بالقوة الغريبة التي تمارس سياساتها بمعزل عن حركة المجتمع وتحولاته الداخلية. وبدلا من أن توحد الدولة الناس وتوسع قاعدتها الاجتماعية من خلال تأسيس وظائف جديدة أقدمت من دون وعي منها أو إدراك لحاجات الناس إلى إضعاف البنية الاجتماعية التقليدية وعزل وظائفها ودفع الناس نحو المزيد من التفكك وتعطيل الاندماج والتوازن الطبيعي المتوارث وأخيرا انكفاء الجماعات إلى هوياتها الثقافية في أضيق حلقاتها، الأمر الذي يفسر اتساع دائرة اضطراب العلاقات بين السلطة والكثير من الجماعات السياسية.
ليس دقيقا القول إن بنية المجتمع الضعيفة أدت إلى نشوء دويلات مركزية تعوض ضعف المجتمع بقوة الدولة. أحيانا ساهمت الدولة المركزية في إضعاف المجتمع من خلال تدمير نسيجه المتوارث وهيئاته الأهلية وشبكة الوظائف التقليدية ولم تنجح محاولات الاستبداد السياسي والمركزية التنظيمية في تعويض ضعف بنية الدولة بل ساهمت في دفع الجماعات نحو العزلة والانكفاء إلى آلياتها الخاصة التي عملت على إعادة تنظيم نفسها في سياقات مستقلة عن الدولة المعاصرة (الحديثة). فالدولة العربية ألغت القديم ولم تؤسس الجديد فأدى الأمر إلى نشوء شكلين اجتماعيين يتنافسان على الشرعيتين التاريخية (الهوية والثقافة) والسياسية (التمثيل النيابي والنقابي والمهني) في مرحلة انتقالية شديدة التداخل وكثيرة التوتر.
بدأت الأزمة المزدوجة ورافقتنا طوال القرن العشرين وأطلت معنا إلى القرن الواحد والعشرين وتبقى الأجوبة مطروحة على سؤال ماذا يعني التقدم وكيف يحصل؟
قرأنا الكثير من الكلام عن الدستور والديمقراطية والهوية والثقافة والتنمية والحرية ودور الدولة وحكم الأكثرية وتنظيم الخلافات وابتكار الآليات المعاصرة لإنتاج السياسة. وقرأنا القليل من الكلام عمن يصنع الدستور ومن أين تأتي الديمقراطية، وما هي الهوية وكيف تتكون الثقافة، وكيف تحصل التنمية وماهية الحرية وطبيعة الدولة ودورها في قيادة التحول وتنظيم خطط التقدم، وكيف تصاغ علاقات الحكم بين الأكثرية والأقلية، ولماذا يجب أن تصاغ أدوات إنتاج السياسة جنبا إلى جنب مع تطور أدوات الإنتاج الاقتصادي؟ وأخيرا كيف تستخدم الهوية في صناعة الحاضر والمستقبل وكيف يستفاد من الموروث الثقافي والمنظومات المعرفية والاجتماعية لتحقيق الحياة العصرية والحديثة؟.
كثرة الكلام عن الجانب الأول وقلته في الجانب الثاني يفسر أصول الخلل في الفكر العربي المعاصر الذي اعتمد على الترجمة والاقتباس والنقل والتوفيق بين المتناقضات وتأخر في اكتشاف منظومته المعرفية وإعادة إنتاجها في سياق التقاط لحظات التقدم ومعرفة أسبابها وعواملها.
لنتصور ماذا يحصل في بلجيكا مثلا إذا قررت الحكومة في أسبوع واحد تعليق الدستور واعتماد الشريعة الإسلامية كقانون وحيد للمجتمع. لنتصور مثلا ماذا يحصل لبريطانيا إذا قررت الحكومة فجأة إلغاء الحروف اللاتينية واعتماد الأبجدية العربية أساسا لكتابة اللغة الإنجليزية. لنتصور مثلا ماذا يحصل للولايات المتحدة إذا قررت إدارة واشنطن إلغاء الأنظمة الليبرالية ومصادرة الدولة للتجارة الداخلية والخارجية وإشرافها العام على القطاعات الاقتصادية والمالية وإعادة توزيع الثروة وفق المنظومات الاشتراكية.
لسنا بحاجة إلى القول إن هناك كوارث اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وإنسانية ستحصل في بلجيكا وبريطانيا وأميركا، وربما تؤدي إلى ثورات وانتفاضات ستلعب دورها في إضعاف المجتمعات وتفككها وتمزقها، وستنعزل الدولة في أضيق حلقاتها وستضطر إلى تعويض ضعفها باستخدام الإرهاب والاستبداد لإعادة توحيد الجماعات وضبطها وهو أمر سيدفع نحو المزيد من الدمار الداخلي والحروب الأهلية الدائمة، وأخيرا انهيار التجربة وسقوط دولة النخبة المستبدة وتراجع الدولة وعودتها نحو المساومة ومصالحة الواقع وإعادة تأسيس العلاقات مع المجتمع من جديد بشكل يحقق الانسجام بين الدولة (كنظام سياسي ودستور ومنظومة علاقات) مع المجتمع كثقافة وهوية ودين واجتماع وتاريخ. فالدولة إذا لابد أن تكون نتاج الجماعة، والمجتمع هو الذي يحدد هيكل الدولة وهويتها الثقافية والحضارية، وأحيانا تلعب العلاقات التقليدية دور القيادة في تحقيق التقدم والتحول.
يمكن القول إن الأمثلة المذكورة لن تحصل وهي أشبه بفرضيات خرافية لكن يمكن الاستفادة منها لفهم ماذا حصل في المنطقة العربية - الإسلامية عندما أقدمت النخبة على الانقلاب على الدولة (السلطان والسلطنة) تمهيدا للانقلاب على المجتمع ومحاولة تكوين شخصية تاريخية تنسجم مع تصورات النخبة ومتصادمة مع ثقافات الناس وهوياتهم.
الخرافة التي افترضنا أنها لا تحصل ولن تحصل في بلجيكا وبريطانيا والولايات المتحدة حصلت فعلا في تركيا الأتاتوركية، واستمدت النخبة العربية إلى حد كبير ذاك النموذج الانقلابي الاستبدادي لتعميمه وفرضه على الجماعات الأهلية باسم التقدم والحداثة والمعاصرة، فالخرافي في أوروبا هو واقعي في المنطقة العربية وما لا يمكن تصور حصوله في بلاد الغرب حصل في بلاد الشرق وانتهينا إلى ما انتهينا إليه.
لسنا هنا في صدد مراجعة التاريخ وإعادة قراءة حوادثه لكن الخلاصة تؤكد أن النتائج الكارثية هي نتاج الانقلابات الفوقية على المجتمع ومصادرة حركة آلياته المتوارثة تقليديا.
قيل الكثير عن أن الديمقراطية أوروبية المنشأ ومركزية النشوء وقيل أيضا إنها عالمية المنشأ وتعددية النشوء. وبغض النظر عن صحة الكلام عن أوروبية الديمقراطية أو إسلامية الديمقراطية أو كونفوشيتها أو بوذيتها فإن الأساس هو تاريخيتها الزمانية والمكانية ودور الجماعات الأهلية المعنية بآلياتها في ربط حركتها العمياء بإرادة المجتمع وتكوينه الثقافي وهويته والعناصر التي يتركب منها. فما يصح في بلجيكا أو سويسرا أو النمسا ليس بالضرورة يصح في المنطقة العربية والعكس صحيح. وما هو صالح في الشرق الأدنى ليس بالضرورة صالحا لفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. فالدستور والديمقراطية والبرلمانية هي أدوات مرنة وغير محددة في أطر قانونية ثابتة ولا يمكن سحبها في تركيبها الكلي على مختلف الشعوب والحضارات والثقافات وذلك لسببين:
الأول، أن كل دستور يمثل في النهاية الحد المشترك لتطور جماعة من الجماعات، وبالتالي لا يمكن استيراده وتصديره فهو ليس سلعة بضاعة كالسيارة أو جهاز الهاتف. الثاني، أن كل دستور قابل للتعديل بما ينسجم مع خصوصية الجماعات الأهلية وأسلوب حياتها وطريقة تفكيرها ومنظومة علاقاتها وأدواتها التقليدية المتوارثة.
نصل هنا إلى منطق التسوية أو التصالح الذي اعتمده أربكان في تركيا واقترح راشد الغنوشي اعتماده في تونس. والدافع على نشوء المنطق المذكور هو أساسا دافع تاريخي أساسه الحرص على عدم دفع المجتمع والدولة نحو المزيد من التفكك والانهيار وأيضا محاولة الاستفادة من أخطاء التجارب والكوارث. فالحرية تتطلب المناخ السياسي المعتدل الذي يساعد على اكتشاف قوانين المصالحة من خلال التقاط خصوصية المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة وهي فترة تجمع ما بين الجديد والحديث والتقليدي والمعاصر والموروث.
بعد مرور أكثر من 80 سنة على الانقلاب الأتاتوركي لا يمكن الرد على ذاك الانقضاض الوحشي على هوية الجماعات وثقافتها بانقلاب نخبوي مضاد كما حاول حسن الترابي في السودان من خلال وضعه لتصورات دستورية معاصرة يعتقد أنها ستساهم لاحقا في صنع شخصية تاريخية حديثة للمجتمع الإسلامي. فالدستور يصاغ ولا يترجم، كذلك هو نتاج اتفاق توافقي ولا يفرض بالقوة من طريق الاستيلاء على السلطة.
وبما أن الانقلاب الإسلامي على الانقلاب النخبوي لن يؤدي إلى تعديل التاريخ ولا تعديل التعديل بل سيؤدي إلى كسر الجماعات إراديا ومحاولة دمجها بالقوة في سياق زمني مضاد للفترة السابقة التي امتدت على عقود القرن العشرين وبالتالي ستعود المنطقة من جديد إلى حرب عصابات سياسية بين الدولة وبعض اتجاهات المجتمع الإسلامية. فالحل الواقعي هو تحقيق التسوية بين المؤسسات المدنية والهيئات الأهلية لإعادة تركيب هيكلية تنظيمية تنسق المصالح وتقيم توازنها في إطار سلمي. وإذا نجح الأمر يصبح الخلاف على تسمية ذاك الإطار من الأمور الثانوية، فالاتفاق على الاسم (ديمقراطي، شوري، برلماني، دستوري) ليس الجوهر بل هو الشكل الذي يتم من خلاله حل أزمة التمثيل السياسي ومعالجة مسألة السلطة وأسلوب الحكم.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2100 - الخميس 05 يونيو 2008م الموافق 30 جمادى الأولى 1429هـ