العدد 2100 - الخميس 05 يونيو 2008م الموافق 30 جمادى الأولى 1429هـ

«أسلمة» علوم الإدارة أنتجت ظاهرة «الدعاة الجدد»

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

في مقال نشر في صحيفة «عكاظ» السعودية بتاريخ 4 اكتوبر/ تشرين الأول 2006، أشار الكاتب وليد سامي أبوالخير الى «انصراف عدد ليس بالقليل من أولي الفكر والرأي العربي والاسلامي الى قضايا ثانوية هامشية فضلا عن كونها غير مستساغة علميا ومعرفيا، بكل أسف أقولها إن عددا مهولا من المشاريع الاسلامية المتعالية ضجيجا هي في جذرها الأول مبنية على أخيلة متوهمة من أبرزها نداءات أسلمة المجتمعات... أسلمة المعرفة... أسلمة النظم الحاكمة... أسلمة البنية التحتية... أسلمة الفن والموسيقى الى ما هنالك من أسلمات تضفي على المشروع الاسلامي صبغة التهافت اللفظي على حساب التوافق والدفق الحركي الواقعي المنسجم».

وواصل «واليوم تفاجئنا دعوة (أسلمة المعرفة) بحضورها الجاثم على ثقافتنا الاسلامية، بل وتكلسها المختمر في عدد من البنى المعرفية الاكاديمية وغير الاكاديمية، فالجامعة الماليزية الاسلامية العالمية و (جامعة العلوم الاسلامية والاجتماعية) وجامعة الزرقاء الأردنية، كلها تضع في أعلى سلم أولوياتها قضية (أسلمة المعرفة) وتجييش العقل المسلم في كهوف معرفية تعزله عن السياقات المعرفية العامة، وتؤطره في خندق المدافعة والممانعة أبد المسير، ولا غرو أن علمنا بوجود وصاية معرفية واحيانا مادية على الجامعات آنفة الذكر، يتزعم تلك الوصاية في جل الأحيان المعهد العالمي للفكر الاسلامي».

وبحسب مؤلف كتاب «تمهيد في التأصيل» لعبدالله الصبيح فإن أول من أطلق مصطلح «أسلمة العلوم» كان جعفر شيخ إدريس في مؤتمر لعلماء الاجتماع المسلمين بأميركا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وأول من نشره «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» تحت مصطلح «أسلمة المعرفة». واعترض الكاتب على المصطلح لأن استخدامات «أسلم» في اللغة لا تساعد على ذلك، «فهي تأتي لازمة بمعنى أسلم الرجل أي دخل في الإسلام وأسلم بمعنى أسلف، وتأتي متعدية بمعنى فوَّض، فتقول أسلم أمره لله، وبمعنى خذل كقولك: أسلم صديقه للعدو، واستخدامها هنا لايصح لغة؛ لأنه يستخدم الفعل المتعدي بمعنى الفعل اللازم. وسبب الخطأ أن (الأسلمة) ترجمة للكلمة الإنجليزية Islamization (بمعنى: جعل الشيء مسلما) وهي تركيب خاطئ في اللغة العربية كما تقدم».

تأسس المعهد العالمي للفكر الاسلامي في 1981 في الولايات المتحدة الأميركية بزعامة قيادات ورموز محسوبة تاريخيا على خط الاخوان المسلمين، بهدف «أسلمة المعرفة»، واعتبر المعهد ان المشروع سيستعيد تراث المسلمين العلمي الحضاري الذي اختطف منهم. ولكن المشروع لم يتقدم عن خطواته التأسيسة كثيرا، على رغم نجاحات مشهودة في متابعة آخر تطورات الفكر الإنساني ومحاولة موافقته مع التراث الاسلامي.

ومن ضمن مشروع الأسلمة، اهتم المعهد العالمي للفكر الاسلامي بعلوم الادارة، ومن بين اصداراته في العام 1994 مثلا «دليل التدريب القيادي» للباحث هشام يحيى الطالب، الذي لخص مفاهيم الادارة الحديثة، واعاد كتابتها ضمن قالب اسلامي يحتوي على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.

ولكن محاولات «أسلمة» العلوم الادارية لم تنتج اي نظرية جديدة، كما لم تستطع أن تطور النظريات أو الممارسات المعاصرة في علم الإدارة، إلا أن محاولات الأسلمة أنتجت ظاهرة من «الدعاة الجدد»، وهؤلاء هم خريجو الجامعات الأكاديمية (العلمانية) الذين تخصصوا في أحد فروع الادارة، ومن ثم انطلقوا للدعوة عبر الندوات والفضائيات مستخدمين أساليب علم السلوك الإداري ولكن بلباس اسلامي. وهذا يعني أن الأسلمة انتجت لنا تطبيقات «إسلاموية»، بمعنى أن الدعاة الذين كانوا يستخدمون الخطاب التقليدي يستطيعون حاليا إيصال أفكارهم بصورة أفضل من خلال اتباع اساليب علم الادارة الحديثة.

عودا على بدء

بدأ علم الادارة في مطلع القرن العشرين علما مستقلا بذاته، وأنشأت جامعة هارفرد الاميركية برنامج الماجستير في ادارة الأعمال بعد أن اتضحت أهمية العامل في الادارة خلال النهضة الحضارية. هذا لا يعني أن الادارة لم تكن موجودة قبل ذلك، ولكن انفصالها لوحدها مع اصولها التكوينية لها، واعتبارها علما، وليست فنا مجردا، جاء بعد اتضاح معالم الادارة الحديثة، التي بدأت من خلال اعتماد دراسات علمية لأساليب تنظيم الانتاج الصناعي.

البحوث التي أسست العلوم الادارية جاء بعضها من أوروبا، ولكن اكثرها كان في أميركا، التي احتضنت البحوث الادارية التجريبية بشكل موسع. وعندما بدأت تلك البحوث ركزت على جانب العمل وطورت النظم التي يمكن من خلالها التحكم بسير العمل، ونشأت عدة نظريات في هذا المجال.

وازدادت اهمية علم الادارة مع دخول علم الاحصاء وبرامج ضبط الجودة من خلال العلماء والمتمرسين في هذا المجال، وايضا كان للعلماء الاميركان الصدارة في هذا المجال. وقد انتقل بعض هؤلاء العلماء الى اليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واحتلال أميركا اليابان، وساهم هؤلاء في تأسيس ادارة الجودة في اليابان.

استفاد اليابانيون من هذا التأسيس القوي للبحوث والتطبيقات الادارية واستطاعوا أن يضيفوا إلى علم الادارة في السبعينيات والثمانينيات الكثير من النظريات التي شملت الجودة والعمل بروح الفريق الواحد وطريقة ادارة المخازن (Just-in-Time) وطريقة التطوير التدريجي من خلال حلقات الجودة Quality Circles، إلخ.

وقبل أن تدخل اليابان على الخط، كان قد تطور علم الادارة في الستينيات من القرن الماضي مع دخول علماء السلوك الانساني على مواضيع الادارة، إذ تمت دراسة الانسان وسلوكياته ودوافعه والبيئة التي يعمل فيها وأثر ذلك على حسن الادارة وتطورها والبحوث في هذا المجال تركزت ايضا في أميركا.

وكان من اهم المفكرين الاميركان بيتر دركر الذي قال في الستينيات إن المعرفة وطرق ادارة المعرفة ستكون العامل الاهم في المستقبل، وهو ما تحقق فعلا في التسعينيات من القرن الماضي، إذ انتقلت اقتصادات الدول المتقدمة الى اقتصاد المعرفة بشكل مكثف.

وفي التسعينيات ايضا ظهرت بحوث ونظريات جديدة في علم الادارة انطلقت من مفاهيم جديدة (ما بعد الحداثة) كما هو الحال مع توم بيترز، الذي تحدث عن تفكيك الاطر التنظيمية للعمل وقلبها رأسا على عقب، كما خرج علينا علماء آخرون تحدثوا عن حتمية اعادة هندسة (هندرة) تنظيم العمل. وسيطر ايضا العلماء الاميركان على هذه الموجة فيما عدا عالم الادارة البريطاني تشارلز هاندي الذي طرح بعدا فلسفيا وانسانيا لعلم الادارة.

تطبيقات «أسلمة» الإدارة

في التسعينيات بدأ الجيل الاول من العرب الذين درسوا علم الادارة العودة الى بلدانهم والتمكن من مواقع مهمة في مجالات حياتهم. وظهرت في هذه الفترة ترجمات عديدة للبحوث الادارية، وقد ضاع الكثير من المحتوى في الترجمات التي لم تجد كلمات عربية لهذا العلم الجديد على اللغة العربية. وظهرت لدينا كلمات مثل «هندرة»، «أتمتة»، «تعهيد»، ولكن لم يجد العرب ترجمات مناسبة لكثير من مصطلحات الادارة الاخرى كما هو الحال مع مصطلح knowledge worker وNLP وغيرهما.

في هذا المجال، ظهرت تطبيقات متطورة لمفاهيم الادارة في شركات كبرى مثل «أرامكو - السعودية» التي تمتلك جيلا من المتعلمين والمتدربين على افضل السبل الادارية، كما ازدادت الحاجة إلى الخريجين من علوم الادارة في البحرين، ولكن كانت اكثرها تتجه نحو الادارة المالية والمحاسبية نظرا إلى كون البحرين مركزا ماليا مهما في المنطقة.

إلا أن الشيء الجديد الذي انتجه العرب واضافوه الى علم الادارة هو «أسلمة» علوم الادارة واستخدامها للدعوة الى الاتجاهات الدينية التي تسود الشارع السياسي العربي والاسلامي. وعليه، ظهر لنا ما يسمى بـ «الدعاة الجدد»، وهؤلاء درسوا إدارة الحسابات أو العلوم الادارية المتعلقة بالانتاج والشركات، ولكنهم اعادوا إنتاجها من خلال دمجها بالآيات القرآنية والاحاديث النبوية الشريفة، وألبسوا تراثنا الاسلامي اطارات علمية ادارية. وهذه الحالات اصبحت ظاهرة وتحولت الى صناعة مؤخرا تلتحق بها فضائيات وبرامج تلفزيونية ومهرجانات ومشروعات عديدة.

وعليه، لو نظرنا إلى الوضع الحالي فإننا نرى أن علوم الادارة والبحث في منطقتنا منحصرة في الترجمات التي يضيع كثير من محتواها، أو في «الأسلمة» التي تستخدم لتسويق «دعاة جدد» ضمن التوجهات الدينية المسيطرة على الساحة السياسية في اكثر بلداننا العربية والاسلامية.

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 2100 - الخميس 05 يونيو 2008م الموافق 30 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً