أكتب اليوم عن الطبيعة العشائرية والقبلية العصيّة على التطويع لكي أخلص إلى سؤال ذي زاوية حادة أتركه ذيل هذا المقال. لأنني ومنذ اغتيال شيخ مشايخ قبيلة العدوان الأردنية سامي عفاش العدوان في سبتمبر/ أيلول الماضي، وما تلاها من تداعيات داخل المجتمع الأردني وأنا أرقب المشهد العشائري في منطقة الشام والعراق بين حين وآخر.
ولم أستغرب حين قرأت أن الدستور الفلسطيني الصادر في سبتمبر من العام 1922 نصّ في مادته الخامسة والأربعين على أن «للمندوب السامي أن ينشئ بأمر منه محاكم منفصلة لبئر السبع ولأية منطقة عشائرية حسبما يرى مناسبا، ويجوز لهذه المحاكم أن تطبق العادات العشائرية» (راجع ما كتبه عارف العارف عن محاكم العشائر في قضاء بئر السبع بمجلة «التراث والمجتمع»، العدد السابع عشر). كما أنني لم أستغرب عندما وضع آية الله العظمى السيدمحمد محمد صادق الصدر فقها خاصا بالعشائر ضمّنه ضوابط للتقليل من فُحش العادات العشائرية.
إنني أتفهّم جزءا من هوس الاهتمام بنسب تليد حين يتعلّق الأمر بإدراك المنسوب المتيسّر للناس في معرفة أنسابهم وجذورهم لتثبيت الحقوق والمواريث، لكن ما عدا ذلك قد يكون مرهونا بطبائع وسمات تطبّعت بها القبائل والعشائر، وقد لا تكون خارجة في بعض مآلاتها عن عصبيات ضاربة تفسّرها أحداث التاريخ.
من العادات الغريبة لدى العشائر، وخصوصا تلك الموجودة في العراق أو فلسطين أو الأردن أنه وحين يُدفن قتيلٌ للعشيرة يقوم أخوة المغدور به بإشهار السلاح أمام القبر ويهمّون بإطلاق النار في الهواء إيذانا ببدء حملة الإغارة لأخذ الثأر، ثم يهمّون بحرق البيوت العائدة إلى عشيرة القاتل.
في حالات القتل التي تقع بين العشائر، تكون الأجواء مشدودة نحو ثلاثة خيارات أمام عشيرتي القاتل والمقتول وهي «العطوة والجلوة والصلحة». فحين تقع حادثة القتل تطلب السلطات الأمنية «عطوة» من أهالي القتيل لمدة ثلاثة أيام أو أسبوع، تتيح لها متابعة القضية واعتقال المشبوهين في القيام بعملية القتل وتطويق مضارب العشائر المتنازعة لمنع الثارات.
أما «الجلوة» فهي أن تقوم السلطة أو العشائر الكبيرة الممتدة بترحيل عائلة القاتل القريبة نَسَبِيِّا منه إلى مناطق بعيدة على أن تكون في عهدة وحماية عشيرة أخرى تقبل بهذه القسمة العشائرية لمنع عمليات الانتقام. وقد يشمل الترحيل أقرباء الجاني حتى الجد الخامس حيث تُجيز الأعراف العشائرية الانتقام وأخذ الثأر حتى الجد الخامس، لذلك ففي أحيان كثيرة يتجاوز عدد المُرحّلين من أهل القاتل إلى المئات.
أما «الصلحة» فهي التي تنظّمها وتقودها العشائر المتقدمة في الوجاهة. فتقيم صلحا بين عشيرتي القاتل والمقتول وفق نظام تعويض وأمان متّفق عليه. على ألا يخرق الجاني هذه «الصلحة» وإلاّ دفع دمه ولو بعد أربعين عاما أو أزيد.
الموضوع يبدو غريبا حقا، على رغم إدراكي بأن جزءا من النُسخة الأصلية لتلك العادات قد تحللت وذابت داخل الأنظمة المدنية التي تحتضنها الدولة المركزية. لكن الإشكال الذي أخلص إليه هو عن كيفية الإمساك بما يُفضي إلى سبيل جاد للتعامل مع هكذا قضايا اجتماعية في بعض جيوب العالم العربي.
فإذا كانت بعض الدول العربية كما في الشام والعراق مازالت ترتكز على القيمة العشائرية في تسيير أمورها، فإن أكلاف المسّ بذلك النظام تبدو فلكية. وإذا ما علمنا أن ضحايا القتل الطائفي في العراق (مثلا) هم بالآلاف فإن المرء لا يسعه إلا أن يضع يديه على رأسه إذا ما قرّر المجتمع العراقي (العشائري) أن يُنهي ملفات قتلاه بعطوة أو جلوة أو حتى صلحة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2099 - الأربعاء 04 يونيو 2008م الموافق 29 جمادى الأولى 1429هـ