لعلها من أروع مشجيات / مضحكات مشهد المأساة الراهنة التي نعيشها في البحرين هي حينما يتم ابتلاع مفاهيم تقدمية ومصطلحات عصرية تم استيرادها كسلع على رغم أن لها خصوصيتها المضامينية وظروف نشأتها الاجتماعية والسياسية والثقافية المميزة في المجتمعات المتقدمة وحتى النامية، فتستحيل تلك المصطلحات والمفاهيم إلى مسوخ رجعية تقشعر منها الألباب حينما يتم هنا هضمها بمحاليل وإفرازات الكراهية الطائفية والإثنية المزمنة التي لطالما حافظ عليها وتوارثها الكثير من أبناء هذا البلد بمنتهى الأمانة والصدق!
ومن بين تلك المفاهيم التي جار عليها الزمكان البحريني هو مفهوم «المجتمع المدني» الذي لم يسلم هو الآخر من أن يكون ضحية وقربانا جليلا لتلك العبثيات السياسية التي لا تستهدف إلا تشظية المجتمع وإعادة فرزه على مكونات أولية وبدائية رجعية خدمة لمصالح آنية لا تتمتع للأسف بأي بعد للنظر، فربما قد حققت البحرين نصرأ مؤزرا كعادتها في سجل الأوائل فكانت صاحبة براءة الاختراع في مصطلحات «المجتمع المدني السني» و «المجتمع المدني الشيعي»!
فاكتشفنا فجأة وبعد قرون من التعايش والتآلف المشترك أننا لا نستطيع أن نتعايش معا، واكتشفنا أننا لا نعرف ولا نحترم حدودنا في ما بيننا وإن كنا نحترم حدود القاعدة الأميركية وحدود الآخرين، ولو حدث أن احترمنا حدودنا فهو حينئذ تأزيم، فقدرنا أن نكون طوائف وفئات وإثنيات يتم تحريكها والتلاعب بها من قبل أصحاب النرد السياسي لنكون حينها لوحدنا من يدفع الثمن غاليا، فيستحيل تجميع البحرين في قالب وطني واحد ولو كانت طبيعة المواقف والقضايا والتحديات المعاصرة تقتضي تلك الوقفات المصيرية، على رغم أن مثل هذا الاتهام كان من المفروض أن يوجه إلى بعض المتنفذين في السلطة ممن بلغوا من الخرف السياسي عتيا حينما أخذوا يتعاملون مع الشعب البحريني الموحد بالمواطنة كتهديد مصيري يحمل له بذور الفناء، فكان لابد من أن تكون الطائفية السياسية ثابتا من الثوابت الرئيسية، وهم بذلك يحسب لهم أنهم نجحوا في ما أخفق فيه رجالات الاحتلال البريطاني حينما أرادوا ضرب الحركة الوطنية المناضلة في مقتل، ومع ذلك فإنني لا أعترف لهؤلاء المتنفذين بالدهاء والخباثة لكون ثلاثة أرباع هذا الدهاء متحصلة جراء الحماقة والغباء السياسي المزمن للكثير من أصحاب الأمر والنهر في قوى «المعارضة الوطنية»!
وإن ترويج وإسناد «المجتمع المدني السني» في قبالة «حصان طروادة» الذي يمثله «المجتمع المدني الشيعي» لا يعد ناتجا عن ضحالة سياسية أكثر من كونه رصيدا محتوما لسجلات من الإفلاس والتعاسة التي لجأت من خلالها قوى سلطوية إلى حرق جميع الأوراق التوظيفية بمنتهى السخف، واكتشفت أنها ومع مجيء الانفراجة «الإصلاحية» الراهنة بحاجة إلى تقمص أوجه جديدة لإعادة بسط نفوذها وهيمنتها وتصفية حساباتها مع غرمائها في المصلحة السلطوية الإقطاعية الذين همشوها كثيرا ولو كان ذلك بأسوأ شكل من الأشكال، فهذه القوى الإقطاعية وحتى تزداد تمكنا علمتنا أن البطالة لدى أبناء أهل السنة والجماعة لها طعم ومذاق آخر يختلف عن البطالة لدى أبناء الطائفة الشيعية الكريمة، كما أن الهم النقابي السني مغاير للهم النقابي الشيعي، والعنوسة بالنسبة إلى السنية لا يمكن أن تقارن بالعنوسة لدى الشيعية، والخبز و «العيش» والدهن السني يختلف عن الخبز و»العيش» والدهن الشيعي، والسواحل السنية تتضاد مع السواحل الشيعية، فالاختلاف والخلاف في البحرين قدر لا مناص منه ولابد من أن تكون هنالك «طائفة منصورة» وإن كان «المجتمع المدني الشيعي» يحظى بدعم وإسناد من قبل «العمق الصفوي»، فما المانع إذا من أن يحظى «المجتمع المدني السني» بدعم ورعاية من «البلاد العربية الإسلامية»!
في خضم تلك المعارك العبثية المندلعة في أرخبيل «المجتمع المدني السني» وأرخبيل «المجتمع المدني الشيعي» أثبت رجال الدين سنة وشيعة موالاة ومعارضة وأكانوا أبناء اليوم أم أبناء الأمس أنهم لا يعدوا على أن يكونوا بحسب المعادلة الحالية «أمراء» و «لوردات» طوائف شاءوا أم أبوا، وهم بالتالي شريك رئيسي وكأنما «لا شريك له» في حلقات التنابذ والتنابز الطائفي والإثني العدمية، فشهدنا دولة العطايا والمكرمات ومسابقات الزواج الجماعي التي أصبحت وقود التحشيد الأول في المعركة المصيرية المنتظرة بين «المجتمع المدني السني» و «المجتمع المدني الشيعي» بدلا من أن ننجح جميعا في وضع خطة إنقاذ وإصلاح وطنية تقضي على الفساد وتعالج أزمة سوء توزيع الثروة الوطنية وتضمن الحياة الكريمة للأجيال القادمة وتحقق التنمية المستدامة أسوة بالدول المجاورة التي لا نليق أن نكون معها في سلم ومائدة إقليمية واحدة!
ولكن مهلا ينبغي ألا نفرط في التشاؤم فبين ظهرانينا اكتشفنا أن هنالك «معارضة مسئولة» وإن كانت ترتدي بشوت «الموالاة»، ولكن هل يفهم إخوتنا الأعزاء من أبناء «المعارضة المسئولة» أن معارضتهم المسئولة تلك وتاريخيتهم المستحدثة في العمل السياسي إنما هي مشروعة ومرهونة ومدعومة فقط في قبالة مواجهة «الوفاق» و «المجلس العلمائي» فإذا انتهى أمر الأخيرين فرضا بمعجزة وانخساف قدري انتهى أمر هذه «المعارضة المسئولة» وانتفت حاجتها السياسية وصفرت أرصدة الدعم والإسناد والتقوية لها من قبل قوى السلطة، فهل ينتبه الإخوة الأفاضل والأعزاء إلى مستقبل «معارضتهم المسئولة»؟ أم أنهم كما عودونا حسبوا ألف حساب لذلك!
ولكن لربما من تعاسة حظ أهل السنة والجماعة في البحرين أن «لورد» الظلام الطائفي وأخطبوط التشظية والفتنة يريد لهم أن يكونوا ضمن «مجتمع مدني سني» في قبالة «مجتمع مدني شيعي» تحت إمرة عمود من الأعمدة، ولكن للأسف هذا العمود قد لا يحمل شهادة حسن سيرة وسلوك في المدرسة الابتدائية التي خرج منها باكرا، كما ليست لديه أية خبرة علمية وأكاديمية وعملية وعلى رغم كل ذلك فهو عمود مبروك ولو كان أجوفا!
أحشفا وسوء كيلة؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2099 - الأربعاء 04 يونيو 2008م الموافق 29 جمادى الأولى 1429هـ