انتقلت البحرين من مرحلة إلى أخرى مغايرة بعد أن دشّن جلالة الملك المشروع الإصلاحي بالتوافق مع شعبه, فدخلنا مرحلة مليئة بالآمال والتطلعات لغد لم نعشه بعد.
إلا أن الحلو ما يكملش على حد قول إخواننا في مصر العروبة. فبيعة الميثاق الكبرى والأعراس التي اجتاحت مدن وقرى البحرين تعبث بها مرة أخرى يد السياسة الماجنة. فإذا بنا نواجه ملفات أكثر تعقيدا وخطورة من سابقتها كملف حجم المساءلة والمحاسبة الممنوحة دستوريا واللازمة لمبدأ توازن السلطات, وملفات أخرى متفرعة كالتوازن الديموغرافي في التمثيل النيابي, وملف التمييز الفاضح, وملف التوطين المهدد لسلامة الوطن, والذي سنتناوله في هذا المقال ببعض من التفصيل.
اجتاحت وطننا موجة عاتية من التوطين لم يشهده عبر تأريخه المعاصر، وقد أحدثت هذه الموجة القاسية تضخما مفاجئا في حجم سكان الوطن أدت الى نمو غير طبيعي بلغت نسبته 15.34 في المئة خلال فترة وجيزة وذلك خلافا للنمو الطبيعي الذي عرفناه منذ ستين عاما والذي تراوح بين 2 و4 في المئة. يُشخِّص البعض هذا التضخم بأنه مرض لكونه تم خارج القانون والمراسيم المعدلة له والتي جعلت من الولادة في البحرين شرطا أساسيا للتمتع بجنسيتها.
السؤال هنا: لماذا خارج القانون؟
يرى المعارضون للتوطين أن هناك أهدافا سياسية وأخرى أمنية لهذه السياسة.
أمنيّة؛ لتجنيد جزء كبير من القادمين الجدد في الجهاز الأمني بشقيه في حين يغلق أمام مكون كبير من مكونات الوطن.
وسياسية؛ لاستخدام أصوات المواطنين لترجيح أصوات المرغوبين من الجهة الرسمية.
ويرى المعارضون أن هذه الأسباب استلزمت التنفيذ خارج القانون وتجنب الشفافية في الإفصاح عن الأرقام.
وبغض النظر عن هذا وذاك فإن للتوطين قواعده التي من ضمنها لزوم إجادة الموطَّن لغة الوطن الجديد للاندماج في ثقافته ولمعرفة ما يمنحه دستور الوطن من حقوق وما يفرض عليه من واجبات, فبدون ذلك قد يعيش الموطَّن كالمرتزق غريبا على هامش الوطن. ولهذه الأسباب تحرص دول كالولايات المتحدة الأميركية على تعليم طالبي الإقامة (جرين كارد) اللغة الإنجليزية للانصهار في الثقافة الأنجلوسكسونية ضمن مفهوم المصهر (ملتنج بوت). وحتى في كندا التي ترى نفسها قطعة من الفسيفساء لإيمانها بمبدأ تعدد الثقافات, خلافا للمصهر الأميركي, يتمسك الفرنسي بلغته والإنجليزي بإنجليزيته ضمن ثقافة جامعة من التعايش والتسامح.
أما في بلادنا فتتكرر معزوفة التسامح والتعايش ومعزوفة العروبة ثم يُسوِّق البعض لفكرة تحويلنا الى مجتمع كوزموبوليتيني؛ أي المتعدد الأعراق. كل ذلك من دون الوفاء بمتطلبات مثل هذه التوجهات ودون إدراك لحقيقة أن المفهوم الكوزموبوليتيني فشل في أن يتحقق حتى في عقر دار منظريه.
لا يمكن لأحد أن يقتنع بما نكرره وما ندعو إليه ما لم نطبق الموعظة على أنفسنا. فإلى أيِّ حدٍّ سيرانا غير المتسامحين إذا كان التوطين سببه الخوف من بعضنا؟ وعندما يرانا الغير مندفعين بهلع نحو التوطين بالرغم من كوننا من أعلى دول العالم كثافة من الناحية السكانية, وأفقر دول الجوار من حيث الموارد. هل سيقنع ذلك الغير بأننا بتنا أكثر اطمئنانا لبعضنا البعض؟
لا جدال أن للتوطين تأثيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية, إلا أن أخطرها ما يلوح في الأفق من التزامات على الوطن لن يكون بمقدوره الوفاء بها لجهة الأجيال المقبلة التي ستختلف في تطلعاتها عن الآباء الذين قبلوا الهجرة ورضوا بالقليل. وحتى لو تم اللعب على التناقضات بين الأطراف المختلفة فإن الحاجة إلى متطلبات الحياة تتصدر سلّم الأولويات في كل الظروف. وإذا كانت بعض القوى الصاعدة تطالب بحقوق سياسية لعمالتها باعتبارها مهاجرة, فما الذي يحول دون مطالبتها لهم بحقوق سياسية واقتصادية كاملة لكونها فئة مستوطنة؟, وإذا كان المواطن مزروعا في تربة الوطن فإن للمستوطن جذورا أخرى يحتمي بها عند الحاجة, والتأريخ مليء بالعبر.
إن معالجة قضايا الداخل بتوظيف الخارج وسيلة جرَّبَها أناس قبلنا فكانت وبالا على الجميع.
إذن فالحل المستدام يظل كامنا في الإصلاح والمصالحة. فلو سعينا بجد نحو هذا الهدف لما أضعنا الإمكانيات والجهد في مشاريع التوطين والتمييز, فتحصين البيت من الداخل كفيل بصدِّ محاولات التسلل القادمة من الخارج تحت أيِّ ذريعة. وبحسابات الربح والخسارة يبقى الإصلاح والمصالحة أفضل الخيارات, وما عداه إبحار بالوطن نحو المجهول
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 2300 - الإثنين 22 ديسمبر 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1429هـ