العدد 2096 - الأحد 01 يونيو 2008م الموافق 26 جمادى الأولى 1429هـ

رُوْحُ الله المُوسَويّ الخُمَيْنِي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أن تسلّم (فقط) بأنّ الخُمَينية كانت ختما ممهورا على جبين القرن الماضي فذاك غُبنٌ وحيف بها. فهي ليست نظاما للمَقْيَسَة الطارئة، أو مماشاة لفهم محيط سياسي وديني وثقافي مُجرّد؛ بقدر ما هي تمكين لنمط مُزاحم لأطروحات التسيير الإنساني والفلسفي والفكري المتراكم.

فالإمام الخميني كفقيه مُطلق قد عَجِزَ عن اللحاق بأفهامه جيوب حوزوية كاملة (فضلا عن آحاد الفقهاء) في العالم الإسلامي كلّه. وهو كفيلسوف بارع فقد تكوّمت على جوانبه نظريات المتقدّمين والمتأخرين دون دَرَك. وهو كسياسي ناهض قد تفجّرت من بين يديه صِيَغٌ جديدة للدولة والحكم والسلطة.

ومن مخياله السياسي انسابت مداركه وتزيّتت لصناعة واقع آخر. فجزء كبير من حركة الإمام كانت تتجّه نحو تحطيم التوابيت الدينية المتراكمة بفعل شيخوخة العقل الفقهي واستطالته الفاقعة نحو التقليد والاجترار. وأيضا قدرته على إلقاء نَرْدٍ آخر بين آحاد الناس ومجاميعهم لتلقّي صورا جديدة ومغايرة للإدارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة.

تلك كانت المهمّة الأصعب لدى الإمام، الذي كان يُدرك قيمة الدين في تحريك شئون الحياة، وأيضا ضرورة تعريته من الكيانات الدخيلة، والأفكار السالبة. فهو مؤمن بأن الإسلام قد اختُطف وتمّ أسره خارج حيّزه الحقيقي، لذا وجب تحريره وكسر قيده.

وإن قرّر الإمام الخميني مع غيره من المفكرين بأن الإسلام قادر على أن يُؤمّن حياة صالحة للناس، فإن الإكتفاء بهذا المقدار من القول لا يُعطي مصداقية له في ظلّ غياب تام للتجربة، بل إن ذلك قد لا يكون سوى من باب الخلاصات الحالمة التي تلعب على أوتار التناقضات بدون ثمن.

لذا فإنني أعتقد بأن الإمام ومن خلال فقهه النادر وفلسفته الجديدة وحسّه السياسي المتوقّد استطاع أن يُصلّب رأيه ذاك، وأن يُفسّر الأشياء بطريقة تُؤمّن له حركة سياسية جيّدة، ومن يرجع إلى كتاب البيع (مثلا) والذي خطّه الإمام في أربعة مجلّدات يُمكن له أنْ يقف على بعض آرائه السياسية التي صار لها حقّ التقديم في سابقة فقهية فريدة.

لقد أنفذ الإمام آراءه السياسية والفقهية بشكل متلازم، وأصبحت رؤاه تلك بمثابة ثورات متعددة لكنها موجهة، فكانت ثورته الفقهية وثورته الاجتماعية وثورته السياسية وثورته الاقتصادية صِيَغا أخرى نحو تمكين أطروحاته (راجع رسائل الإمام إلى مجلس صيانة الدستور خلال عقد الثمانينات).

كان الإمام يقول «إذا كان لمسألة ما حكم في فترة زمنية مضت، فمن الممكن أنْ يكون لها حكم جديد ضمن (العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المهيمنة على نظام ما)؛ أي أنه ومن خلال المعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية يظهر لنا أنّ الموضوع الأوّل الذي لم يختلف عن القدي م من حيث الظاهر قد أصبح في الواقع موضوعا جديدا، ولا بدّ أنْ يكون له حكم جديد» (راجع كتاب مرآة الشمس ص 285).

وما يهمّ من الحديث السابق للإمام أنه عنى أكثر من أي شيء آخر بركيزة «العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المهيمنة» وبالتالي فهو يصيّر أحكاما إلى أخرى طبقا لظروف مُحددة يكون لها وجاهة ومرجع في تشخيص المصداق.

بل الأكثر من ذلك هو تحويل تلك الأحكام من أحكام ومبادئ شرعية مُجرّدة إلى لوائح تقنين تنضوي تحت عباءة القانون حين يتحول جوهرها العام لصالح قهرية الدولة في التنظيم والتطبيق والفك والضم، خصوصا إذا أريد لتلك الدولة أن تختط لنفسها حالة من الاستقلال النسبي عن كل المفاعيل المحيطة بها.

لقد كان الإمام الخميني أمام تحديات فلسفية مُترسّخة تَحُول دون أنْ يختط لنفسه منهجا آخر. فيوم جاء كانت الليبرالية الإنسانية كنظرية بروتستانتية دنيوية فردانية تحل العقلانية مكان الله ويحل الفرد العقلاني محل الروح البشرية التي تسعى إلى الاتحاد مع الخالق هي الأمضى والأنفذ في العالم الغربي (ولا زالت) بل وفي الكثير من الدول خارج العالم الجديد وأوروبا القديمة (بتصرف - راجع حدود الحرية لـ إيزايا برلين).

ويوم جاء كانت مناشط الآيدلوجية الماركسية لازالت عصيّة على التفكك رغم مرض وعائها وكيانها التجريبي (الاتحاد السوفيتي) وما زالت أطروحات قانونيتها وانعكاسها للطبقات وارتباط ذلك بالصراع بينها حاضرة، بل الأكثر أن حظّها ذلك داخل إيران كان وافرا وقويا ومترسخا منذ أن اجتاحها المدّ الاشتراكي من روسيا نهاية القرن التاسع عشر، وانعقاد مؤتمر كمونيست إيران في العام 1920.

لكن الخاصرة الفلسفية لشكل الحكم والتي نظّر لها الإمام الخميني كانت قد تحوّلت إلى صورة مكتملة بعد خمسة عشر عاما من البحث والإشباع، وكانت المناظرات التي يبثّها التلفزيون الإيراني بعد الثورة بين كيا نوري وإحسان طبري (وهم من قادة ومفكري الماركسية في إيران) وبين آية الله الشهيد محمد حسين بهشتي إحدى تجليات ذلك الإشباع، وتاليا عبر شكل الدولة القائمة على أنقاض الشاهنشاهية.

لقد اعتمد الإمام في منهجه السياسي والإداري منذ أوّل يوم لانتصار الثورة الإسلامية في الحادي عشر من شهر فبراير/ شباط من العام 1979 على توسيط العقل العام (Public Reason) من أجل الأخذ بآخر قطرات الشرعية والمشروعية السياسية، وقيام التشريع على صيغة تعليل واعية، وهو ما تمّ فعلا من خلال التصويت على شكل النظام السياسي ولاحقا في عمليات الانتخاب المتتالية.

لقد كانت يوتوبيا قيام دولة دينية في الربع الأخير من القرن العشرين تتمثل في عدم وجود تلك الدولة في نطاق السردية التاريخية وخبرتها المتراكمة بشكل يُؤمّن قدرا من التعويض والتصحيح لأي مثالب قد نتجت عن تلك التجارب السابقة لصالح تجارب لاحقة، وكانت تلك مشكلة حقيقية لم يكن تجاوزها واقعيا لولا مناعة شخصية وفكر الإمام الخميني وتحوله إلى استثناء ديني وسياسي فريد.

ورغم أن هذه المشكلة كانت تُذِرُّ أمامها عددا من المشاكل والتعقيدات تتمثل في عدم قدرة هذا النموذج على مسايرة السياق الدولي في صيغته القائمة كالمعاهدات والاتفاقيات والعلاقات الثنائية والمواثيق الأممية، لكن الإمام الخميني لم ينظر إلى ذلك الإشكال من خلال الإخفاق في التفريق بين الدولة والسياسة الدولية؛ لأنه كان يُدرك بأن صيرورة ذلك ستقود بلا شك إلى عدم قدرته على التعاطي مع العالم واستحقاقاته.

إن دراسة شخصية الإمام الخميني في ذكرى رحيله التاسع عشر بطريقة جادة ومُركّزة لهو ضرورة حوزوية وأكاديمية؛ لأن ما أعمله الإمام الخميني بإقامة دولته نهاية سبعينيات القرن الماضي كإحدى تجليات شخصيته يُمثل نقلة غير عادية على صعيد العلاقات الدولية وفي طريقة تقديم الدين وفي أنماط الحكم والسلطة خارج الصِّيَغ القائمة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2096 - الأحد 01 يونيو 2008م الموافق 26 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً