الساعة هي الواحدة والنصف ظهرا، والمكان هو شارع الفاتح، وأبطال القصة هم عائلة صغيرة يجلسون بصمت في تلك السيارة الصغيرة التي تضمهم، والتي وقفت في صف طويل جدا من السيارات تنتظر الفرج. الأب الأربعيني يمسك بمقود السيارة بقوّة وكأنما لا يريد أن يفكّر في شيء آخر، الأم تجلس إلى جانبه متشحة بالسواد، ذلك السواد الذي يجذب أشعة الشمس جذبا. كان من الواضح أنها لا تريد أنْ تفكّر في أي شيء، غير كيفية الخروج من هذه الورطة. وفي المقعد الخلفي من السيارة المتواضعة ثلاثة صبية صغار، يرتدون ملابس المدرسة، كانوا هادئين جدا يتصفحون وجوه سائقي السيارات القريبة، وحبّات العرق تنساب من جبين كل منهم، وملامح التعب والإرهاق تملأ وجوههم. لا تعرف عندما تنظر إليهم، هل سبب تعبهم ذاك هو يوم طويل مرهق في المدرسة، أم هاتان الساعتان اللتان يتعذبون في كل دقيقة منهما حتى يصلوا إلى منزلهم أخيرا. تعاون مكيّف السيارة المعطل، وأشعة الشمس الحارقة في ذلك الوقت من النهار، وتصليحات الطرق في ذلك الشارع التي جعلت الوضع في ساعات الذروة لا تُطاق ولا تحتمل.... كلّها تعاون لتزيد من بؤس هؤلاء الصبية، وعذاب هذه العائلة، التي لا مفرّ لها من المرور من هذا الشارع كل نهار.
ترى هل جرّب المسئولون عن إدارة الطرق والأشغال أنْ يجلسوا في سيّارة دون مكيّف في تلك الساعة من الظهر وسط طريق لا تتحرك فيه السيارات إلاّ بالكاد، لكي يشعروا بأولئك الصبية الصغار، ويقدروا قيمة قطرات العرق التي تنساب من جبينهم كل يوم؟ من الواضح أنّ هؤلاء الصبية لم يقرأوا العبارة الموضوعة على طول الشارع « نعمل لأجل راحتكم»، ولم يكن يهمهم قراءتها، لقد جلسوا في مقاعدهم بصمت ومن دون تذمر، لم يطلبوا اعتذارا من أحد. لم يبدوا استياء من واقعهم الذي ولدوا ليفاجئوا به، لم يتساءلوا ولو يوما لماذا يجب أنْ يمروا في هذا الطريق كل يوم، ولماذا يجب أنْ تلفح الشمس وجوههم هكذا، ولماذا عليهم أن ينتظروا كل هذا الوقت حتى تتحرك السيارات أمامهم ليصلوا إلى المنزل فينعموا بكوب من الماء البارد حلموا به طوال الساعتين اللتين فصلتهم من المدرسة إلى المنزل. لم يفكّروا في أي من ذلك، جلسوا بصمت وهدوء ولم ينطقوا بشيء. غير أنّ ملامحهم وعيونهم ولفتاتهم كلها كانت تنطق، لعلها تسمع « حيا» ، على الرغم من أنّ « لا حياة لمن تنادي».
إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"العدد 2094 - الجمعة 30 مايو 2008م الموافق 24 جمادى الأولى 1429هـ