بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وما رافقه من تمزق إمبراطوريات وبروز دول جديدة، كانت الدولة العثمانية التي وقفت مع المحور الخاسر الذي كانت تقوده ألمانيا من بين أهم المتضررين من تلك الحرب، إذ كانت القوات البريطانية تتوغل في الولايات العثمانية من الجنوب حيث العراق ومن الشمال حيث مدينة إسطنبول التي احتلها الجيش البريطاني بعد قتال بحري دام، أما القوات الفرنسية فكانت هي الأخرى تتوغل في سورية، فيما كان اليونانيون يحتلون أهم المدن العثمانية على ساحل بحر إيجة «أزمير» ليعيثوا بها دمارا ونهبا.
عندها كان المجتمع التركي بدأ مرحلة الانهيار الثقافي المستند إلى مبادئ النظام الإسلامي، فظهر مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك ليوحد ما تبقى من جيوب عسكرية وجيش منهار ويؤسس نواة جيش للمقاومة الوطنية ضد الاحتلال، انتهت بمعاهدات ضمنت تحرير الأرض التي تقوم عليها الجمهورية التركية حاليا.
أتاتورك بعد الحرب بدأ بإعادة رسم الهوية التركية في إطار دولة علمانية - قومية مقامة على أنقاض هوية إسلامية، فنجح في تحويل تركيا إلى نموذج علماني للعالم الإسلامي، اتفق معها من اتفق وعاداها من عاداها.
وعلى رغم اختلاف البعض بشأن طريقة أتاتورك في تأسيس جمهوريته، فإنه قدم نموذجا متقدما لدولة حديثة يمثل الإسلام النسبة الأكبر من شعبها.
الأحداث التي تحدثنا عنها مر عليها ما يقارب القرن من الزمان حيث مرت تركيا خلالها بمخاضات عسيرة متنوعة بدأت بإعدام أول رئيس وزراء منتخب بطريقة ديمقراطية «عدنان مندريس»، وبالتأكيد لن تنتهي بمحاكمة رئيسي الجمهورية والوزراء المتهمين الآن بخرق الدستور العلماني للدولة، لكن هذه المخاضات تؤكد نجاح الطريق الذي اعتمده الأتراك حيث يقدمون نموذجا جديدا لدولة إسلامية - شرقية - عصرية يكون الولاء للوطن والحفاظ على مبدأ الديمقراطية والحرية في إطار مجتمع إسلامي أهم ركائزها الأساسية.
مرحلة المئة عام التي مر بها الأتراك لم تكن بالطبع سهلة على تحول شعب متحول عن النظام الإسلامي، وكما قلنا، فقد مرت تركيا بسنوات صعبة تهددت فيها الديمقراطية ووحدة الوطن مرات عدة، اكتشف خلالها الشعب قبل السياسيين أن تركيا لا يمكن إلا أن تكون جسرا بين الشرق والغرب. شرق الإسلام والعادات المحافظة وغرب الديمقراطية والانفتاح الاجتماعي. معادلة صعبة نجح الأتراك في موازنتها فكانوا نموذجا عصريا للمسلمين مثلما هم الآن نموذج قد يبدو محافظا للغرب لكن لا يختلف على ديمقراطيته وعدم التمييز بين الشعب.
تركيا تعيش ديمقراطيتها الوطنية المتناسقة مع طبيعة أي مجتمع شرقي، وهي أيضا ديمقراطية لا تتقاطع مع المجتمعات الغربية، فمتى تكون للدول العربية ديمقراطياتها الوطنية الخاصة، بعيدا عن النماذج الغربية المستوردة؟
إقرأ أيضا لـ "علي الشريفي"العدد 2093 - الخميس 29 مايو 2008م الموافق 23 جمادى الأولى 1429هـ