في المشهد الأميركي، شكلت زيارة الرئيس بوش إلى المنطقة في نتائجها صدمة عنيفة لحلفائه من العرب، على خلفية الخطاب الذي ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي، والذي كشف انحياز الموقف الأميركي الكامل لـ «إسرائيل» فيما يتعلق بقضايا التسوية، وبالأخص قضية القدس واللاجئين، وأظهر خداعه في حديثه الدائم عن الدولة الفلسطينية التي أراد أن يخدِّر بها الشعب الفلسطيني، ليظهر بعد ذلك أنها مجرد حلم.
وإذا كان «بوش» قد وعد بمعالجة هذه الانطباعات السلبية، في كلمته التي ألقاها في شرم الشيخ، فإنه لم يقدم رؤية أميركية واضحة ومحددة لهذه الدولة التي يتحدث عنها، ما جعل بعض حلفائه يتساءلون عن ماهية الدولة الفلسطينية الموعودة، وعلى أي حدود تقام. إضافة إلى ذلك، فإنه لم يعبر عن دعمه الواضح للحق الفلسطيني، مكتفيا بتوجيه مواعظه لما يسمى بـ «دول الاعتدال العربي» بضرورة إدخال إصلاحات سياسية وديمقراطية على أنظمتها في العالم العربي، ما جعل بعض وزراء «الاعتدال» يعلق على مواعظه بأنه «تناسى أكثر من أربعة ملايين فلسطيني يعيشون في سجن كبير بسبب الاحتلال الإسرائيلي».
لقد فشلت الإدارة الأميركية - بشخص رئيسها - في الحصول على دعم حلفائها في العالم العربي، والذين يهمس بعضهم بالاعتراض على سياستها، ويجاهر بعض آخر بذلك، تحت ضغط شعوبهم التي فقدت الثقة بهم، وتحت تأثير المجازر اليهودية التي تمارسها «إسرائيل» على الشعب الفلسطيني، واجتياحاتها للمدن والمخيمات الفلسطينية، وتجريف مزارعها بكل حقد ووحشية وانتقام، وحصارها التجويعي واللا إنساني للمدنيين في غزَّة، من دون أن تساهم الدولة العربية المجاورة بفتح حدودها للتخفيف من هذا الحصار، مهددة الفلسطينيين باستعمال القوة و «تكسير الأرجل» إذا حاولوا التحرك لكسر هذا الحصار وفتح الحدود بفعل الجوع والحرمان وفقدان الخدمات الحيوية الإنسانية.
ومن الملفت أننا رأينا الكثيرين من الإعلاميين والسياسيين ينتقدون الاستقبالات الحميمة من قبل رؤساء الأنظمة للرئيس بوش ولمندوبيه الذين يرسلهم إلى المنطقة لتسويق سياسته ضد إيران، بزعم مواجهة مشروعها النووي السلمي الذي تتهمه بأنه مشروع عسكري من دون دليل، وذلك للضغط عليها لتقديم التنازلات للمصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
إننا نعتقد أن هذا الدعم الأميركي المطلق لـ «إسرائيل»، الذي عبر عنه الرئيس الأميركي في خطابه في الكنيست، يمثّل تحذيرا للفلسطينيين بأن عليهم أن ينتظروا ستين سنة إسرائيلية جديدة، على طريقة السنين الماضية بكل تداعياتها وضغوطها وسيطرتها الاحتلالية ومجازرها الوحشية، لأن الاستراتيجية اليهودية لا تريد أن تكون للفلسطينيين دولة قابلة للحياة، مستقلة في أمنها وقرارها الاقتصادي والسياسي، بل أن يبقى الفلسطينيون على هامش الكيان الصهيوني مجرد عمال زهيدي الأجر لبناء الاقتصاد الإسرائيلي، وليبقى اليهود في المواقع المتقدمة في تقوية اقتصادهم الإنتاجي، وتنمية ثرواتهم وصناعاتهم التي يتحولون من خلالها إلى دولة مصدرة للسلاح ولمصادر القوة للدول الأخرى.
استراتيجية تهويد فلسطين
إن «إسرائيل» تحاول الاستفادة من الوقت الضائع في سبيل إتمام استراتيجيتها في تهويد القدس، وبناء مستوطنات جديدة، وتوسعة المستوطنات القديمة، إضافة إلى اللقاءات العقيمة مع السلطة الفلسطينية، والتي لم تتقدم خطوة واحدة في تحقيق النتائج الحاسمة فيما يسمى بالحل النهائي، من خلال الشروط التعجيزية التي تتحدث عن إنهاء عمليات المقاومة، وإسقاط الانتفاضة بالقوة، بفعل الضغوط التي تمارسها السلطة الفلسطينية ضد المجاهدين، في تشجيع أميركي من جهة، أو تحريك للجنة الرباعية من جهة ثانية، ولاسيما مع الإشراف لرئيس وزراء بريطانيا السابق المسئول عن حرب العراق واحتلاله، ما يساهم في استكمال سيطرة الكيان اليهودي على فلسطين، امتدادا للخطة البريطانية في بداية تأسيس هذا الكيان من خلال وعد بلفور المشؤوم.
وفي هذا السياق، فقد يكون خطاب الرئيس بوش المؤيِّد بشكل مطلق لـ «إسرائيل» التي تحولت إلى ولاية أميركية هي الأهم من بين الولايات، وسيلة سياسية لدعم المرشح الجمهوري من قبل اليهود الأميركيين وحلفائهم من المحافظين الجدد، لأن لليهود دورهم الفاعل المؤثر، ولاسيما في المساعدات المالية في انتخاب الرئيس ومجلسي النواب والشيوخ. وهذا ما لابد من أن يفهمه العرب والمسلمون الذين يغرقون في أحلام التغيير من خلال الرئيس الأميركي القادم، لأن الأحزاب الأميركية قد تختلف في سياستها الداخلية، أو في بعض سياستها الخارجية، ولكنها لن تختلف في التأييد المطلق لـ «إسرائيل»، الأمر الذي يفرض علينا أن نخطط لسياسة حرة مستقلة توظف ثرواتها واستراتيجيتها لتقوية مواقعها وتأكيد مواقفها، لتكون في الموقع المتقدم في حركتها السياسية والاقتصادية في العالم.
إنجازا التحرير والتسوية
وفي لبنان، فقد كنا نقول للبنانيين إن ما يحول دون التوصل إلى تسوية هو غياب الإرادة والقرار، وليس نقص المبادرات والمخارج، إضافة إلى فقدان الثقة بين الذين يديرون المسألة السياسية. أما وقد ألهم الله تعالى المسئولين للوصول إلى تسوية تنطلق من قاعدة «لا غالب ولا مغلوب»، التي أثبتت مجددا أن لبنان محكوم للتسويات التوافقية، فإننا نبارك للبنانيين هذا الاتفاق الذي نتمنى أن يؤسِّس لمشروع حواري دائم تُطرح فيه القضايا الخلافية كافة، لأن اللبنانيين الحائرين المحرومين أرهقوا من التفتيش في هذا البحر الدولي والإقليمي والطائفي والمذهبي المتلاطم الأمواج، عن سفينة تنقلهم إلى شاطئ الأمان.
وإننا - في هذه المناسبة - ندعو إلى الحذر الشديد من لعبة الأمم التي تقودها الإدارة الأميركية، التي لاتزال تخطط في سياستها المتجبرة المستكبرة لإرباك المنطقة، والتركيز على لبنان كساحةٍ تدير من خلالها صراعاتها مع أكثر من دولة من دولها، ولاسيما أمام الدعوة التي أطلقها الرئيس بوش لليهود بأن يتابعوا حركتهم في بناء دولتهم التي قامت على أنقاض حقوق الشعب الفلسطيني، والتي تعمل على إبادة هذا الشعب من جهة، وإرباك المنطقة في قضاياها السياسية والأمنية من جهة ثانية.
كما ندعو المسئولين العرب الذين أداروا هذه التسوية إلى أن يُخلصوا لهذه التجربة، ولا يخضعوا لما قد يُدبَّر في الكواليس الدولية التي يرتبط بها بعضهم ارتباطا عضويا، وخصوصا بعدما قرأنا أن الكونغرس قرر محاكمة دول «أوبك»، ولاسيما الدول العربية والإسلامية، على ارتفاع أسعار النفط التي نعرف أن أميركا مسئولة عنها جملة وتفصيلا.
أيُّها المسئولون: إن عيون المحرومين والجائعين والمتعَبين شاخصة إليكم، وعليكم أن ترتفعوا إلى مستوى المسئولية التي تجعلكم تخططون للخروج من دائرة الغرق في الوحول السياسية والطائفية والمذهبية والشخصانية، إلى الآفاق الواسعة التي يتنفس فيها اللبنانيون الصعداء، في خطة واقعية تعمل على حل مشكلتهم الاقتصادية أمام غول الغلاء الذي يأكل من لحمهم الحي، وتحررهم من سجون الأزمات السياسية التي يختنقون فيها، من خلال آلية تضمن عدم العودة إلى الحرب، والاتفاق على إنقاذ البلد الذي لن يستطيع أحد أن يستأثر به، وبذلك فقط سينصفكم التاريخ وتترحَّم عليكم الأجيال.
وأخيرا، إننا في عيد المقاومة والتحرير الذي تشكلت من خلاله عناصر جديدة في حركة المقاومة التي استطاعت أن تحمي لبنان وتهزم «إسرائيل» في كل عدوانها المتمادي عليه، نؤكد أهمية حفظ المقاومة وحمايتها في أية حركة سياسية أو حوارية على مستوى المستقبل، لأن هذه المقاومة أثبتت بتضحيات مجاهديها ودماء شهدائها، أنها عنصر القوة الحقيقي للبنان، إلى جانب العناصر الأخرى، ولاسيما الوحدة الداخلية التي نريد لأي اتفاق أن يكون ناظرا في وجوب الحفاظ عليهما؛ المقاومة والوحدة الإسلامية والوطنية، كدعامتين أساسيتين لبناء لبنان قوي حر مستقل.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2093 - الخميس 29 مايو 2008م الموافق 23 جمادى الأولى 1429هـ