مرّت الذكرى الخامسة على احتلال العراق قبل أكثر من شهر مثلما مرّت خواليها الأربع. مستشار الأمن القومي العراقي مُوفّق الربيعي وحده من قال كلاما غير الذي قاله نصف العالم أو أزيد.
الربيعي رجل متفائل كثيرا، وقد يُنسي تفاؤله تفاؤل من خَلَوا من قيادات سياسية، وفي طليعتهم وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصّحاف الذي أدار معركة «مُمسْرَحَة» مع الإعلام المرئي قُبيل وبُعيد معركة غزو العراق.
لستُ هنا في موقع التهكّم من أحد، ولست مُجيّرا من أحدٍ ضد أحد؛ لكنني بالتأكيد واحد من هذا العالم الذي هاله ما جرى في العراق بعد التاسع من أبريل/ نيسان قبل خمس سنوات. على رغم أنني كنتُ حالما (كغيري) بأن سقوط النظام البعثي حتما سيفضي إلى نظام أفضل مهما كان سوؤه وسوءاته، نظرا لما اقترفه نظام صدام حسين من جرائم لا يتحملها قلب ولا عقل.
أعود إلى موفّق الربيعي وإلى تفاؤله. وقد أتجرأ بضرب الطاولة أمام الجميع كما فعلها نيكيتا خروتشوف في مبنى الأمم المتحدة لأجزم بأن الرجل قال كلامه وهو يضع في أذنه اليُمنى طينا وفي الأخرى عجينا لكيلا يسمع غير ما يُريد.
لن أتحدث مع الرجل بالفجاجة ذاتها التي تحدث معه بها مشعان الجبوري في إحدى حلقات الاتجاه المعاكس، لكنني أجرّ ذاكرته بهدوء حيث مآسي بلده المتعاظمة. وبين كفاية تلك المآسي وكفافها تضيع الأحزان والنفوس الملكومة، ليس آخرها مأساة السيدة العراقية «فَرْحَةْ النَّايِل»! التي أبقت قصتها العراق على محكّ الشرف والمسئولية السياسية.
فَرْحَةْ النَّايِل التي حبلت بستة عشر بطنا (كما يروي ذلك الزميل مشرق عباس) هي نموذج حديد لتصالح الأنوية المذهبية. فهي أقسمت وزوجها على النفور من التمذهب، والاقتصار على الالتزام بإسلام أوّلي جامع لا يعرف التشيّع ولا التسنّن.
بعد سقوط بغداد وتصاعد المد الطائفي المقيت التي أرست قواعده بإحكام الصّيعنة التكفيرية، تداولت العائلة أوضاعها واتفقت على خيار لا تحبه لكنه أهون الشّرّين. الخيار هو أن تنساب العائلة في المذهبين السُنّي والشّيعي بحسب الطلب وما يقتضيه الزمكان. فمن يسكن من العائلة «حي الدورة» (السُنّي) يكون سُنّيا، ومن يسكن منها «حي الشرطة» (الشيعي) يكون شيعيا ليأمن القتل. لكن الإيغال في التطرف المذهبي في العراق جعل الإخوة مُتّهمين من قِبَل الميليشيات الطائفية. فهم ليسوا عائلة صافية نقيّة، ففيهم الشيعة وفيهم السنّة، الأمر الذي جعلهم في مصاف الآلاف من العراقيين الذين اتُهِمُوا بأنهم يمتهنون حرفة شراء المذاهب وقاية من القتل والتهجير.
فحصل ما حصل. من سكن حيّا شيعيا من الإخوان هُجّر على رغم حمله صورا لمراجع التقليد، ومن سكن في حيّ سُنّي أيضا هُجّر على رغم تزيين سيارته بصور للكعبة المُشرّفة والمسجد الأقصى. في حين قُتل اثنان منهم بعد تفجير المرقدين العسكريين في فبراير/ شباط من العام 2006. بقي تسعة من الإخوة، تصيّر أربعة منهم إلى التشيّع، في حين تسنّن الخمسة الآخرون وقاية، وانتهت أخبارهم منذ فبراير الماضي.
وقد نتفاجأ في الذكرى السادسة للاحتلال (والتي نتمنى ألا تمر) بأن يزيد تفاؤل السيد الربيعي لنكتشف لاحقا أن من تبقّى من هؤلاء الإخوة والأحفاد الخمسة والثلاثين قد وُجِدَت جثثهم في مكبّات القمامة أو في ساحات التخليص أو متفحّمة نتيجة حزام ناسف يُفجّره إرهابي، لندرك جيدا أن المفاهيم قد لا تحمل مرادفاتها الأصيلة بالضرورة بقدر ما تحمل نوعا جديدا من التفاهة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2092 - الأربعاء 28 مايو 2008م الموافق 22 جمادى الأولى 1429هـ