ما حاول أخيرا تمريره أحد الصحافيين على لسان أستاذ التاريخ بجامعة البحرين بشير زين العابدين بشأن ما أسماه «أسطورة السكان الأصليين» وقوله إن المجتمع المحلي لديه قدرة عالية على «استيعاب أية جماعات أو عناصر دخلت أرخبيل البحرين أو ستدخل للعيش فيها مستقبلا» يستبطن نية مدفوعة الثمن لتبرير عمليات التجنيس السياسي التي مازالت تشحن الشارع البحريني تأجيجا بعد سنوات من تنفسه الصعداء.
والحمد لله ان استدراك زين العابدين يوم أمس كشَفَ زيف ما نقل عنه بقوله إنه «فوجئ بنشر مادة مغايرة لمضمون ما كان يتحدث به وأنه لم يتطرق (أساسا) للأسطورة» الملفقة. رافضا إقحام المواضيع العلمية والأكاديمية في إطار سياسي يمكن أن يساء تفسيره. كاتب الخبر أراد تمرير شعلة نارية تدخل البحرين في فرز تاريخي حاسم لسكانها. إلى هذه الدرجة صرنا نستقوي بالعقول الموتورة من أجل حشد التأزيم الطائفي لهذا البلد المسالم، بدلا من إيجاد بدائل تخفف من الاحتقان المفتعل بين طائفتين كريمتين لا يشكك عاقل في جذورهما الضاربة في أعماق هذه الأرض الطيبة.
مصير شعب مترابط ومتحاب على مر التاريخ بجميع فئاته لا يترك في يد بطانة متمصلحة أو صحافة متهورة لا تقيم لأمن الأجيال وسلامة الوطن وزنا. فالانحياز للمداحين لم يجنِ للأوطان سوى الخراب، كما أن الاستقواء بمبرري أخطاء الحكومة أو المعارضة لا يعني سوى الضعف واستمرار التوتر.
جسر المصالحة البحرينية
من القرارات الحكيمة التي عممتها هيئة التحرير في صحيفة «الوسط» إثر اندلاع الحوادث الساخنة الأخيرة في لبنان منعها نشر أية موضوعات أو مقالات تربط بين ما يجري في لبنان مع مشكلات الاحتقان في الساحة البحرينية، وذلك تجنبا لتأجيج فتنة بحرينية - بحرينية غير محمودة العواقب. أمّا وقد انفرجت الأزمة بإحكام منطق العقل ونجاح حوار الدوحة فلا بأس الآن من تسليط مقاربة بين البلدين على جانب الحوار الإيجابي الذي أخمد الفتنة وتوّج لبنان برئيس توافقي منتخب يقود دفّة الحوار في ما تبقى من أمور عالقة.
ما جرى في الدوحة لم يدع مجالا للشك في أن منطق العقل هو الأقدر دائما على دحر الفتن، ومادام صوت العقل غائبا أو مغيبا فلا نتوقع المزيد المزيد من الأمن والاستقرار، وذلك ما راهن عليه الكثير من مراقبي الغليان اللبناني قبل انفجاره.
البحرين التي تقل مشكلاتها تعقيدا بكثير عن نظيرتها لبنان، هي الأخرى بحاجة أولا إلى الاعتراف بوجود تراكمات سياسية أدت إلى زعزعة الثقة بين فئتين مهمتين أساسيتين؛ السلطة والمعارضة. فالتجربة التاريخية أثبتت أنه بالإمكان التمهيد لعلاقة تكاملية وثيقة لو جلس الاثنان على طاولة الحوار وتنازلا عما يمكن التنازل عنه في مقابل الاتفاق على ما يجعل البلد يطير بجناحين نحو الاستقرار والتنمية، وليس بجناح واحد.
احتضان العقلاء
الحل يكمن في احتضان السلطة لأصوات العقل من كل الأطراف، بغض النظر عن توجهاتها السياسية، وعدم الرضوخ لمفرقعات الفتنة الصادرة من نوايا غير مسئولة لا يهمها احترق الوطن أم نجى. فالعقلاء المخلصون في هذه المملكة العزيزة الذين لا يزايد أحد على وطنيتهم ويملكون زمام الأمور ويشكلون صمام أمان للشارع من الانفلات عند المنعطفات العصية كثيرون، وعلى السلطة أن تنتقيهم برويّة وتحتضنهم مهما بلغ الاختلاف بينها وبينهم، عليها أن تسعى لترطيب العلاقة معهم والجلوس معهم على مائدة الحوار الوطني الجاد الذي يجنب البحرين الوصول إلى مزالق الفتنة التي تحيط بالمنطقة عموما.
مهما بلغ الاختلاف بين أقطاب السلطة والمعارضة فإن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يجمع نظراءهم السياسيين في لبنان أو العراق، وهذه حسنة لا ينبغي للحكومة البحرينية ولا التيارات السياسية المعارضة التفريط فيها أبدا.
نعم، صدق زين العابدين... «ليس من حق أي باحث (أو أي مرتزق من جنود التقرير المثير) أن ينفي الأصالة عن مجتمع البحرين بكل طوائفه. نرتقب مبادرات جادة تقوم بها أطراف بحرينية - بحرينية للم الشمل وإسكات أبواق الفتنة، بدلا من أن يضطر الإخوة البحرينيون إلى الجلوس لاحقا على طاولة حوار في إحدى المدن الشقيقة أو الصديقة... فهل نستفيد من تجارب الآخرين؟.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2091 - الثلثاء 27 مايو 2008م الموافق 21 جمادى الأولى 1429هـ