عندما وُقِّعَ اتفاق الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين بكيت لأجل نصر الله. ربما لم يكن بكاء خنسائيا يرفع المِجْلَد، ولا يعقوبيا يُناجي السماء؛ لكنه بلا شك يحمل ملامح البكاء. تذكرت حيِّزُه الطاهر وسرديته التاريخية في رَبْأِ قومه، فدفعني ذلك عنوة لأنْ أبكيه لا نعيا وإنما شاهدا على أوهن معارك الشرف بين الصغار والكبار.

تذكرتُ عُهْرَ نِزالِهِم لك يا نصرَ الله. فمن لَم يقدر عليك منهم بالحراب شَتَمَك. ومَنْ أعياه أمره فيك بَهَتَك. ومن تعلّق بقفطان العمالة بَغَضَك؛ لأنك جَذْرٌ للوطنية والتعالي والسّمو. تذكّرتُ كل ذلك وأنا أرقب ما تمّ في دوحة الخليج العامرة.

تذكّرتُ تبطّل الكتائبيين والشمعونيين والقواتيين وبقية الجوقة اليوم من دون حياء من تاريخهم المُكوّم بعلاقة شاذة مع المحتل الصهيوني منذ العام 1978 وفِعلهم الشنيع في سوق الغرب وصوفر وبحمدون ودير القمر وبعقلين بجبال الشوف، والقياعة والهلالية في صيدا وفي مجزرة صبرا وشاتيلا، في حين يُعيّرونك اليوم وبلا خجل بالعمالة وضيق الشرف!.

تذكّرت قصف الفاكهاني وحصار الثمانية وثمانين يوما لبيروت من قِبَل الجيش الصهيوني، ثم اندحاره من مثلث خلدة والدامور ثم جبال عاليه والشوف وصيدا وصور والنبطية، وكيف كانت أنوية حزب الله تتصلّب بهدوء داخل «أفواج المقاومة اللبنانية» إيذانا بخروجها نحو كيان جديد.

تذكّرت انتفاضة 6 فبراير/ شباط 1984 لإخراج الكتائب من بيروت الغربية وتقليص يمينيتها الفاقعة، ومعارك الوجود للكيانات. ثم تذكّرت السادس عشر من شباط 1985 ذكرى إعلان تأسيس حزب الله في حسينية الشياح.

تذكّرت حرب المخيمات الفلسطينية في لبنان عندما حُوصِرَت لتقزيم نفوذ العرفاتيين، ووجدتك تقدّم الغالي والرخيص من أجلّ فكّها، فقاتلتَ صدرا بصدر ضد بني قومك لصالح الفلسطينيين، وتسلّمت بلدة المغدوشة منهم عرفانا لدورك في إنهاء مأساتهم الدامية والإنسانية، التي دفعتهم لأكل الفئران والسحالي بسبب الحصار والجوع.

تذكّرتك حاضرا ضد حصار مخيّم الرشيدية، وشاتيلا وبرج البراجنة، ثم عضّك على الجراح بعد هجوم «الدخلاء على هموم القضية» ضد مقاتليك لصالح آخرين ممن يمنون هلاكك، ومنعك من الوصول إلى إقليم التفاح، بعد انسحاب اللحديين من قرية بصليا في جنوب لبنان باتجاه عرب صاليم.

تذكّرتك في معركة كفر ملكي عندما شّن أؤلئك الدخلاء هجومهم الثاني عليك ولمدة ثلاثة أيام من وادي الليمون إلى القرّية، فصمدت دون أن تسرف في الرصاص، ثم وجدتك تُفرج عن أسراهم بعد أيام يتيمة؛ لأنك مُقتنع بأنّ قضيتك أكبر، وما جرى لا يعدو كونه «خطيئة موتور من محيطه» نتجت عن سوء تقدير.

تذكّرتك خلال الاجتياح الصهيوني الثاني للجنوب في العام 1993 والذي نُعِتَ حينها بعملية «تصفية الحسابات» وكيف أنّ إفشالك لهذا الهجوم قد كرّس انهزام العدو أكثر، واضطره إلى توقيع « تفاهم تموز «لتجنيب شمال فلسطين المحتلة لهيبك ونيرانك، وحماية لأهل لبنان من عنجهية المحتل.

تذكّرتك في تفاهم نيسان ساعيا لتحييد مدنييك، وأشهدت العالم كلّه عليه، وألزمتهم بقانون المعاهدات الدولية الصادر في العام 1969 من دون أنْ تعطي عدوّك فرصة سياسية لإنهاء الصراع المشروع معه لتحرير أرضك.

تذكّرتك عند هروب إيهود باراك بجيشه المُحطّم من جنوب لبنان في ليلة ليلاء من شهر مايو/آيار من العام 2000 من دون سابق إنذار أو أية ترتيبات أمنية. وعرفت حينها أنّ معركة ديان بيان فو الفيتنامية قد تعود، وأنّ انهيار سايغون على أذرع الفييتكونغوين مازالت ناهضة.

تذكرتك حين قدمت 1300 شهيد من خيرة أبناء لبنان، لكنك لم تنسى أن تُجبر عدوك النّزِق أيضا على تقديم 1500 قتيل وعشرين ألف جريح، لم يخسر نصفهم في معركته مع ثلاث دول عربية خلال حربه الخاطفة، فحوّلت سيمفونية «قوّة لبنان في ضعفه» إلى «قوّة العالم العربي والإسلامي من قوة لبنان».

تذكّرتك حين لم تستأثر بنصرك المجيد ضد جيش الدفاع المكلوم، وأهديته لكلّ اللبنانيين في عرس بهيج، بل إنك لم تنتقم من خصمك اللحدي ممن باع وطنه لعدوه ضد أهله وذويه، ولم تُقم له المشانق ولا محاكمات نورمبرغ ولا محاكمات آي إم تي.

تذكّرتك مُقاتلا مِغوارا في حرب تموز، حين تفجّرت من بين حَجَرك وحديدك نار الصمود والشرف والتضحية في قبالة النيئيين والمرعوبين. ثم رأيت سواعدك لا تغفل بيتا مُدمّرا ولا شارعا متصدّعا ممن دمرها العدو إلاّ وبادرت نحو جبرها وتسكين أهلها بمالك «النظيف».

تذكّرتك حين تمالأ عليك حلفاؤك السابقون ممن دعمتهم في بعبدا عاليه والبقاع الغربي، ليحاربوك بأقسى أنواع النّديّة، ويُقصوك من الحكم بسماجة، ثم يحتسوا الشاي مع من قاتلته من أجلهم، لكنك أيضا لم تقبل كسب السلطة بخسارة الوطن، ورضيت بقسمة اللا غالب ولا مغلوب.

إنني أتذكّرك اليوم يا نصرَ الله من حيث حروف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل حينما كتب إليكَ معزيا باستشهاد نجلك البكر «هادي» وقال (لقد رأينا الأبوّة تُمتحن بالجهاد إلى درجة الشهادة، ورأينا الجهاد يُمتحن بالأبوّة إلى درجة البطولة. إنني لا أعرف ماذا أقول لك؟ فلا أنا راضٍ عن كلمة عزاء أواسيك بها، فأيّ كلمة عاجزة، ولا أنا قادر على الصلاة من أجلك، فصلاتك أقرب إلى عرش الله من أيّ قول أو همس يصدر عنّي أو عن غيري).