العدد 2088 - السبت 24 مايو 2008م الموافق 18 جمادى الأولى 1429هـ

سعد زغلول « اللبناني» يحقق انتصاره الثاني

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

واجترح اللبنانيون الحل (التسوية) من جديد ونهضوا كطائر الفينيق من بين أنقاض البيت الذي كاد يقع سقفه على الجميع لولا إرادة الحياة والعض على الجراح.

ونجح أصحاب القامات الشامخة والمقاومة ممن كظموا غيظهم وصبروا على الأذى لسنوات ثلاث عجاف, في تحقيق إنجاز تاريخي جديد لا يقل عن إنجاز الظفر بعد الاستقامة والصبر في عدوان يوليو/ تموز من العام 2006.

ورضخ العالم لشروط الشراكة المتكافئة للبنانيين من كل الطوائف والمذاهب والأطياف, في إدارة لبنان المحصن والمنيع وغير القابل للتقسيم و «العرقنة» بفعل مخططات الفتنة التي كانت تعد له على امتداد السنوات الثلاث الماضية.

كل ذلك لم يكن ليحصل لولا طول بال وحكمة وصبر «أم الولد» التي رفضت الانجرار وراء التحريض والشحن الطائفي والمذهبي المقيت.

لقد حملت أم الولد هذه أجساد شهدائها على أكفها ومضت وهي صابرة مصابرة ترفض الانزلاق نحو الفتنة الداخلية أو الاندفاع نحو الغرائزية, كما حملت صليبها على كتفها وهي تدعو الله ليغفر لخصومها ويهديهم حتى جاءت لحظة قطف الثمار وما طال الانتظار.

لقد كمنوا لها في أكثر من طريق وحاولوا الإيقاع بها في أكثر من مؤامرة وسددوا الرصاص نحوها في أكثر من اشتباك لعلها تقبل بحلول تقطع لبنان إلى كانتونات أو فيدراليات فتمزقه قطعة قطعة, لكن أم الولد فضلت المحافظة على الولد كما هو قطعة واحدة كاملة متكاملة, حتى وهي تخسر من رصيدها الخاص, وجاء الانتصار على كل طروحات التفتيت والاقتتال والتشطير وما طال الانتظار.

من جهة أخرى ففي لحظة أوج انكسار الأحادية الأميركية المتغطرسة, فقد تداعى من اتهموهم زورا وبهتانا بـ «العرب الخائفين» من إيران وسورية ليلتقطوا اللحظة التاريخية ويقرروا الإقدام على الخطوة الواقعية والجريئة, واضعين صدقيتهم على طاولة دوحة الحوار, فإذا بهم يكسبون الرهان وينجزون المهمة التاريخية ويملأون الفراغ الذي خلفه انكسار العنجهية الأميركية بعد تردد من وسموا بمحور الاعتدال وحيرته وانحيازهم, فاكتسب «العرب الخائفون» هؤلاء لقب محور «العرب الواقعيين والعقلانيين» بامتياز, وهكذا كان الحل المعجزة والتسوية المرضية على أيديهم وما طال الانتظار.

ومع ذلك يبقى الفضل في الإنجاز الذي نعيشه الآن في لبنان لأصحاب تلك القامات الشامخة والجباه العالية من الرجال الذين تحملوا كل أشكال الضغوط وما حنوا قاماتهم لحكم القناصل والسفارات بفضل التفاف الناس من حولهم، وهو الرصيد الحقيقي الذي أنقذ هذا البلد وحرره من متاهات الخراب والفتن والحروب الأهلية المتنقلة التي كانت تعد له في أوكار السفارات ومنظمات الأمن الخاصة على شاكلة العراق.

نعم ثمة حكاية مصرية شهيرة يتداولها المناضلون المصريون في أدبيات مقاومتهم للإنجليز تستحضرني هنا, تقول: عندما ذهب سعد زغلول إلى بريطانيا لمفاوضة الإنجليز طلب منه الوفد المرافق من جملة ما طلب وهو يستعد للقاء الملكة بان من قواعد البروتوكول الانجليزي أن يقوم الزائر هنا بانحناءة احترام خاصة للتاج البريطاني وهو يصافح المتربعة على العرش الامبراطوري العظيم, وإذ هز الزعيم الوطني المصري رأسه دون تعليق تنفست الحاشية المرافقة الصعداء ظنا منها أنها أنجزت كل ما عليها بخصوص الزيارة والمفاوضات من دون سهو أو نسيان أو خطأ, لكن المفاجأة كانت بحجم الزعيم الكبير عندما رأوه وهو يسلم على الملكة باستقامة كاملة لجسمه من دون أن ينحني ولو بقدر ميلمتر واحد.

اضطربت الحاشية بالطبع وتحيرت العقول وتشوشت القاعة ولكن كان ما كان إلى أن انتهت جلسة المفاوضات، فإذا بالمرافقين وأعضاء الوفد يتزاحمون للوصول إليه ليسألوه مستغربين مندهشين عن سبب إهماله لهذه التفصيلة الصغيرة والبسيطة في البروتوكول لكنها المهمة جدا، فقال لهم سعد زغلول: لقد حاولت العمل بالقواعد المتبعة وتنفيذ ما أشرتم علي بتطبيقه إلا أنني شعرت بأن الـ 22 مليون مصري الذين تركتهم ورائي يجرونني بقوة جبارة وعظيمة إلى الوراء فلم أستطع مقاومتهم وكانت لهم الغلبة هنا أيضا.

إنها قصة معبرة وبليغة جدا خلدها الزعيم الوطني المصري لتكون صالحة لكل ظرف وعصر.

منذ ثلاث سنوات والعالم كل العالم يحاول إحراج المقاومة اللبنانية المسلحة بمفهومها العريض بكل أنواع الحيل والخداع والزيف و «قواعد البروتوكول» الدولي والإقليمي والمحلي, ليخرجها عن طورها مرة بالحرب وطورا بالسلم ليفصل بينها وبين جمهورها العريض سواء الممتد على مدى الـ 10452 كيلومترا هي مساحة لبنان, أو على مدى الوطن العربي الكبير والإسلامي الأكبر من طنجة إلى جاكارتا, وذلك من خلال المؤامرات السياسية والضغوط النفسية الهائلة واغتيال الكوادر والأنصار, لعلها تتعب وتيئس فتتخلى عن مطالبها العادلة بالمشاركة والعدالة والإصلاح والتغيير! أو عبر فتنة الإيقاع بين أم الولد وأولادها من كل الطوائف والمذاهب والأطياف لعلها تضطر لحرف بندقيتها المقاتلة باتجاه الداخل بذريعة ضرورة تعديل ميزان القوى السياسي مهما كلف الأمر ولو بالقوة كما كان يخطط له, مما كان سيؤدي إلى فتنة كريهة ومقيتة ونتنة تشبه تلك التي نشهدها في العراق منذ خمس سنوات على خلفية وذريعة رفع الحيف والظلم عن بعض الفئات ولكن على يد الأجنبي المحتل والدخيل.

لكن المقاومة اللبنانية الإسلامية التابعة لحزب الله ومعها شريحة واسعة من الشعب اللبناني المنضوية تحت إطار ما يعرف بالمعارضة الوطنية كانت واعية لخطورة ما كان يخطط للبنان ولها, لذلك فإنها كما قاتلت العدو الخارجي بكل صلابة وتفانٍ وتضحية لا نظير لها, فإنها صبرت على الداخل بكل تأنٍ وحكمة وصلابة على الموقف أيضا, وكظمت غيظها طويلا ولم تنجر إلى أزقة و «زواريب» الداخل اللبناني الآسنة والملوثة بأطماع السلطة والجاه والأنا القاتلة.

نعم لقد اضطرت المقاومة أخيرا وكما بات معلوما للجميع لأن تستعمل سلاحها في معركة دفاعية لا لبس فيها بعد أن هددت من خلال محاولة المس بشرايين ذلك السلاح وعينه الساهرة وشبكة أمنه وأمانه, لكنها وعلى رغم انتصارها الحاسم فيه لم تستثمر ذلك الانتصار كما صار معلوما وواضحاَ للعيان أيضا لا من أجل زيادة مطالبها ولا في تغيير شروط الشراكة والمصالحة الوطنية, ما يؤكد صدقيتها بأن سلاح المقاومة كان دائما وسيظل موجها ضد العدو الخارجي.

ومع ذلك كله فلولا هذا الحزم والصرامة في الدفاع عن الحقوق لم يكن العالم ليرضخ لشروط التسوية بالتكافؤ والتشارك. إنها لحظة انتصار لبنان العقل والحكمة كما القوة والمناعة. إنها تسوية وليس حلا جذريا. نعم، لكنها التسوية التي تضع القطار على السكة الصحيحة كما يقول الجنرال عون, سكة الإصلاح والتغيير المرتقب.

وكما أهدى سماحة السيدحسن نصر الله انتصار يوليو العسكري في العام 2006 لكل اللبنانيين فإنه لا شك سيهدي هذا الانتصار السياسي الآخر كذلك لكل اللبنانيين ولن يطول الانتظار.

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 2088 - السبت 24 مايو 2008م الموافق 18 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً