عندما اندلعت أزمة الفرات في عقد الثمانينيات كان الأتراك يرددون مقولة «لكم نفطكم ولنا مياهنا»، وهو قول لا تخفى مقاصده على القارئ، فهم يتعاملون مع موضوع المياه من منطلق أن السلاح بأيديهم يتحكمون فيه كيفما شاءوا مثلما أن دول الخليج تتحكم بموضوع النفط وهو قول لا يلامس الحقيقة بل يشير إلى حجم أزمة المياه التي وضعت على أجندة العلاقات الإقليمية والدولية من منظور «التسييس» وليس من باب القانون الدولي وحقوق المياه التي أوجبتها التشريعات الأممية الصادرة عن الأمم المتحدة.
مستقبل المياه في العالم العربي يشبه مستقبله السياسي فهو دائم التقلب سريع التغيير، قراره لم يعد مستقلا بل هو رهينة لعبة الكبار.
والأمن المائي العربي ليس بعيدا عن مفهوم الأمن القومي الذي تتعدد فيه الآراء والاجتهادات من دون أن يلامس أرض الواقع أو يترجم قرارات فعلية تمنع التفتيت أو تحمي وحدة الإقليم العربي، تماما مثل أمنه المائي الذي نحتفل فيه بالمناسبات في ظل عجز قائم بالمحافظة على الحقوق العربية بالمياه أو تحقيق اكتفاء ذاتي يفي بالأغراض الصناعية والزراعية والشرب، فالعالم العربي وفق أحدث الإحصاءات يواجه نقصا في موارده المائية بنسبة 40 في المئة ونصيب الفرد من المياه أصبح أقل من 500 متر مكعب في السنة.
تجربة دبي
الذين يتحدثون عن أزمة لا يتكلمون من فراغ والذين يفترضون «مواجهات» يستندون إلى حقائق ومعطيات على الأرض، أبسط مثال وأقربه إمارة دبي وإن كانت كل دول الخليج العربي أي بلدان مجلس التعاون الخليجي تعتمد في تلبية طلباتها على مياه البحر وتحليتها بعكس الدول العربية الأخرى في المشرق والمغرب ووفقا لإحصاءات هيئة كهرباء ومياه دبي تبلغ الطاقة الإنتاجية من المياه في دبي 262 مليون غالون يوميا والتي تتجه إلى للارتفاع إلى 800 مليون غالون يوميا بحلول 2015 لذلك قامت ببناء أضخم خزانات خرسانية لمياه الشرب في العالم بهدف تلبية الطلب المتصاعد من عشرات المشروعات العقارية الضخمة التي تكلف مليارات الدولارات مترافقا مع نمو سكاني متسارع وتطور اقتصادي حيث شرعت ببناء ثلاث خزانات بسعة 60 مليون غالون وستزيد الطاقة التخزينية من المياه من 235 مليون غالون إلى 415 مليون غالون، يشار هنا إلى خزانات مياه «غيرل توماس» التي تخدم مدينة سان دييغو في ولاية كاليفورنيا الأميركية تحمل حاليا لقب أكبر خزانات مياه خرسانية في العالم بسعة 35 مليون غالون..
مراكز السخونة
وموضوع المياه يكاد يكون حاضرا في معظم المؤتمرات الدولية ذات الصلة، ففي المؤتمر الثاني الذي عقد في سويسرا أواخر العالم 2007 تقدمت «مبادرة لوتسرن» للسلام والأمن باقتراح يقضي باعتبار المياه حقا من حقوق الإنسان وجرى نقاش في المؤتمر عن مجموعة من الهواجس بسبب تزايد الحصة اليومية للمواطن من المياه وفي ظل حالة تثير الكثير من التساؤلات وتشيع جوا من عدم الاستقرار بكون معظم الأنهار التي تغذي المنطقة العربية تأتي من الخارج وتتحكم دول المنبع بدول المصب، فمصر والسودان باعتبارهما نقطة مصب لنهر النيل، وسورية والعراق امتداد لنهري دجلة والفرات الآتيين من تركيا.
ولعل أبرز مراكز السخونة هما حوض النيل وأثرهما على مصر والسودان وحوض وادي الفرات وارتباطهما بالعراق وسورية التي شهدت توترات وخلافات حدودية كادت أن تتسبب بمواجهات عنيفة.
وكما ينقل سعيد اللاوندي فنهر النيل يثير عددا من القلاقل ويمثل صداعا في رأس مصر بسبب تلويح بعض الدول من الحوض بطرح إعادة توزيع الحصص المدرجة بالاتفاقات الدولية المنظمة لها ولاسيما أن البعض يطرح بين وقت وآخر موضوع خصخصة مياه النيل أو تسعيرها وفتح بورصة للمياه يجري من خلالها بيع وشراء البراميل على غرار بورصات النفط العالمية من أجل إدخال هذه المادة الحيوية في لعبة الصراعات والنزاعات وتحويلها سلعة تجارية بعيدا عن الاتفاقات الدولية المثبتة للحقوق المائية للمستفيدين منها.
والتقارير الخارجة من مصر كبلد زراعي تشير إلى أن المياه لم تعد تتدفق بالمعدلات الماضية نفسها في عدد من المناطق إلى جانب شح مياه الشرب في عدد من المحافظات.
تسييس أزمة المياه
الخبراء بالشأن المائي يستغربون على رغم وجود توجهات أو خطط بإشعال الفتن بسبب المياه، كيف أن العرب مازالوا غائبين عن وضع آلية تضمن عدم التلاعب بورقة المياه من قبل الغير أو استخدامها ورقة سياسية للابتزاز وتوفر حد أدنى من الضمانات لإيصالها إلى المواطن العربي في وقت الأزمات، فلا الاحتياطات تأخذ مساحة من الاهتمام ولا الترشيد نال ما يمكن أن نسميه بالحد من «الإسراف» غير المبرر وتحديدا في منطقة الخليج العربي التي تتحمل فيها الحكومات أعباء مالية رهيبة ومرتفعة من أجل مياه الشرب والاستخدامات الأخرى المتنوعة.
دور «إسرائيل»
البعض يعتقد أن أكثر المناطق قابلية لإشعال الصراعات فيها من أجل المياه هي منطقة الشرق الأوسط وأن الصراع على المياه هو سمة من سمات هذه البقعة الجغرافية التي تتعدد فيها النزاعات العسكرية والسياسية والحدودية، فالدراسات البحثية كما أشار إلى واحدة منها الباحث عماد سعيد لبد تقول إن نسبة ما تحصل عليه «إسرائيل» من المياه، ومن خارج حدود الأراضي العربية المحتلة العام 1967 تبلغ 68 في المئة من إجمالي استهلاكها للمياه بينما تحصل الدول العربية من خارج حدودها على 60 في المئة ما يبين خطورة وأهمية المياه للأطراف والدول المعنية في المنطقة.
فـ «إسرائيل» عملت على استنزاف المياه الفلسطينية منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة العام 1967 والسيطرة على أحواض المياه فيها وأطماعها في المياه اللبنانية تعود إلى العام 1919 عندما أعلنت الحركة الصهيونية عقب مؤتمر فرساي رغبتها في السيطرة على جنوب لبنان وجبل الشيخ والدعوة لإدخال المياه الضرورية ضمن حدودها وكذلك الأمر بأطماعها في مياه نهر الأردن والمياه السورية وفي مجمل الأحوال تشير الإحصاءات إلى أن «إسرائيل» تستهلك من المياه نحو 80 في المئة من مجموع الأحواض المائية المشتركة مع الفلسطينيين في حين أن 80 - 90 في المئة من مناطق التغذية لتلك الأحواض تقع في المناطق الفلسطينية.
الأنهار الدولية والمياه المحلاة
ويرى الباحث والمحاضر في جامعة حيفا «أرنون سوفر» في كتابه «الصراع على المياه في الشرق الأوسط» أن منطقة الشرق الأوسط غارقة في مشكلات تخص إيجاد عملية توازن بين تزايد عدد السكان وإنتاج الغذاء والطاقة وبين الشح في الموارد المالية وبحسب معطيات لجنة الأم المتحدة للمصادر الطبيعية والأنهار الدولية يوجد في العالم نحو 214 نهرا دوليا منها 110 أنهار لها منابع كبيرة جدا وأنه يوجد 69 نهرا دوليا في قارة أميركا و48 في قارة أوروبا و57 في إفريقيا و40 في قارة آسيا.
وفي دراسة نشرتها صحيفة «القبس» الكويتية بتاريخ 2 يونيو/ حزيران 2006 نسبت القول إلى إبراهيم الحسيني الذي يشغل منصب نائب رئيس في مؤسسة «بوز آلن هاملتون» وهي شركة استشارية عالمية في الاستراتيجية والتكنولوجيا أن معدلات الاستهلاك المرتفعة تعزي بشكل رئيسي إلى السياسات الزراعية العشوائية التي تشكل أحيانا أكثر من 90 في المئة من استخدام المياه في البلاد يضاف إليها نسبة 40 إلى 50 في المئة خسائر بالفاقد من المياه، إذ أدت معدلات الاستخدام المرتفعة إلى تضاؤل موارد المياه الجوفية، إذ تستنفذ المياه من خزانات المياه الجوفية أسرع مما يلزم لإعادة ملئها، بينما يعطي مدير قطاع الطاقة والمرافق وليد فياض في هذه المؤسسة رأيا آخر بقوله إن «مخزون المياه الجوفية غير المتجدد الذي استغرق تجميعه مئات أو آلاف السنين قد يستنفذ في غضون عقدين من الزمن بمعدلات الاستهلاك الحالية ونظرا للاستخدام المفرط للخزانات الطبيعية ثمة اتجاه متزايد إلى استخدام المياه المحلاة التي تبلغ كلفة استغلالها 3 أضعاف استغلال المياه الجوفية وفي غالبية دول مجلس التعاون الخليجي تشكل المياه المحلاة أكثر من 50 في المئة من معدل استخدام المياه المحلي لكن الاعتماد على المياه المحلاة باهظ الكلفة إذ يتوقع أن تبلغ كلف تحلية المياه المالحة في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 24 مليار دولار بين العامين 2005 و2015 مع العلم أن إنفاق السعودية والإمارات يساوي 13 مليار دولار تقريبا.
العدد 2087 - الجمعة 23 مايو 2008م الموافق 17 جمادى الأولى 1429هـ