منذ اليوم الأول لحرب تموز، لم أره يضحك من قلبه. وطوال 33 يوما من عمر الحرب، كان دائما ما يكرّر: لقد تم شطب لبنان من الخريطة، فهو كان بادي التأثر مما يجري من تدميرٍ وحرقٍ واستهداف مواطنيه وتقطيع أوصال وطنه الجميل... الجميل.
كان يقول دائما: هذه ليست حربا لإعادة جنديين، إنما هي حربٌ لضرب البيئة الشعبية الداعمة للمقاومة، وهي حربٌ لتقويض البنية التحتية للدولة. إنها عملية شطبٍ للبنان.
منذ اليوم الأول لحرب تموز لم أشاهده يضحك إلاّ بعد إعلان الاتفاق بين الفرقاء اللبنانيين في الدوحة أمس الأول (الأربعاء)، فقد كان وجهه يطفح بالأمل والفرح والاستبشار. وفي المساء، حضر حفل تدشين كتاب الزميلة منى فضل، وقبل أن يدخل قاعة فلسطين بجمعية “وعد”، التف حوله الكثيرون من قرّائه يهنئونه على الاتفاق. يقول: “لقد شعرت فعلا كم يحب البحرينيون لبنان، كلٌ منهم يتحدّث وكأنه بلده الذي وُلد فيه، وكأن الاتفاق نجاحٌ شخصي لهم، وعرفت أيضا موقع بلدي الصغير في قلوب الآخرين”.
هو يعرف ان لبنان الذي يُجمع على حبّه العرب، كلٌ منهم على طريقته، فمنهم من يرى فيه مجالا للاستثمارات، ومنهم من يرى فيه مطبعة للعالم العربي، أو منبرا حرا للتعبير عن مختلف القوى والتيارات، وأعرق تجربةٍ ديمقراطيةٍ في البادية العربية. ولكلٍّ قصةٌ في هواه، بين من يراه مصيفا لقضاء العطلة السنوية وملهى للراحة والأنس، وبين من يراه رمزا شامخا للعزة والكرامة، بعد أن أذاق دولة الجبابرة “إسرائيل” كأس الذلّ مرتين، وكسر هيبة جيشها الذي “لا يُقهر”.
في الدوحة أيضا كتب طلال سلمان (صاحب السفير) عن العناق اللبناني الملتهب ووصول دويّ الفرح والزغاريد التي تفجّرت بها شوارع بيروت وأحياؤها إلى المؤتمرين في الدوحة، وعن منطقة “الدفنة” التي أضافت أرضا جديدة إلى مساحة الدوحة حيث تمّ دفن الفتنة في لبنان. وتوقّع لقاء قريبا طال انتظاره، بين نصر الله والحريري، ليلتئم الجناحان الإسلاميان الكبيران.
أينما تذهب ترى علائم البشرى على الوجوه، حتى عندما دخلت مجلس الوالدة الحادية عشرة مساء، كانت جاراتنا وأعمارهن فوق الستين، يتحدّثن بفرح عن إزالة الخيام من بيروت، وسألتني إحداهن بقلق: “هل صحيح سيأخذون سلاح المقاومة من السيد حسن نصر الله؟”، فردّت عليها صاحبتها بثقة: “لا، لقد انتصر حسن نصر الله”. فقلت: “المهم أن يخرجوا من مشكلتهم وليس المهم من انتصر ومن انهزم”. فالمهم أن يعود لبنان عن حافة الفتنة التي يريد أن يُوقِعه فيها الأميركان، وأن يعود إلى دوره الجامع للقلوب، بدلا من أن يتحوّل إلى عراق آخر يبعث بالشرر والنيران.
الآن... ينتظر عشاق لبنان يوم الأحد المقبل، ليروه يمشي متبخترا لاختيار الرئيس، وليحتفل بـ 25 أيار آخر، فلم يكن في الدوحة غالب ولا مغلوب، وإفلاته من حافة الفتنة الطائفية هو أجمل ألوان الانتصار على الذات.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2086 - الخميس 22 مايو 2008م الموافق 16 جمادى الأولى 1429هـ