تواجه المنطقة العربية والإسلامية حالا خطيرة من الفوضى السياسية والإعلامية والأمنية، من خلال أكثر من موقع دوليّ تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية في إدارتها الحالية التي تزحف إلى بلدان المنطقة لتربك أوضاعها، كوسيلة للسيطرة عليها، ولإثارة الفتن في داخل شعوبها، مستغلة التعقيدات الدينية والعِرقية والحساسيات الإقليمية، وموظِّفة القائمين على شئون الأنظمة الحاكمة في المنطقة الخاضعين لها، والمستسلمين لمصالحها الإستراتيجية، في عناوين ضبابية ملتبسة تصنع الإثارة، وتحرّك الفتنة، وتصادر حرية الشعوب تحت شعارات إصلاحية، وتقوم بالعنف الدامي الذي يقتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ باسم قصف المواقع المعادية، غير عابئة بالمصائب التي تلحق بالآمنين الذين إذا ثاروا على هذه المجازر، اعتذرت لهم بأن المسألة كانت خطأ غير مقصود.
ومن المؤسف أنّ الاتحاد الأوروبي، وفي مقدّمته فرنسا وبريطانيا، يتحرك جنبا إلى جنب في السير مع الخطط الأميركية الاستكبارية التي لا تحترم العروبة ولا الإسلام، في عملية ضغط على شعوب المنطقة، وخداعٍ للقائمين على شئون العالمين العربي والإسلامي، مستغلة حاجة الكثيرين منهم إلى دعم مواقعهم الرسمية لتقوية مواردها الاقتصادية، في بيعهم الكثير من الأسلحة التي لا تحتاج إليها هذه المواقع العربية إلا لتحريكها في الحروب الداخلية بين دولها، أو لتوظيفها لمصلحة حروب أميركا في الدفاع عن مصالحها الإستراتيجية، لتستفيد منها القواعد الأميركية في البلاد العربية، ومن دون مقابل، لحسابها لا لحساب مصالح الشعوب العربية والإسلامية، لأنّ هذه الشعوب ليست واردة في حساب الإدارة الأميركية، ولا سيما برئاسة رئيسها الحالي (بوش) الذي «لا يملك إلا استراتيجية واحدة هي (إسرائيل)»، على حدّ قول بعض المسئولين الأميركيين.
لقد جاء الرئيس بوش إلى المنطقة من أجل أن يجرّ أكثر من دولة عربية إلى التطبيع مع «إسرائيل»، وأنْ يؤكّد يهوديّة هذه الدولة الغاصبة، غير عابئ بما قد يؤدّي إليه ذلك من مشكلات للعرب المقيمين في الكيان الصهيوني، وهو يلتقي بالمسئولين العرب لا ليحقق الشروط الواقعية للدولة الفلسطينية، بل ليجمع هؤلاء حول «إسرائيل» في ذكرى اغتصابها الستيني لفلسطين. وقد حاول «بوش» أنْ يهرب إلى الأمام ليتحدّث عن إيران أنها تمثل التهديد الأكبر للسلام في الشرق الأوسط، وذلك بسبب برنامجها النووي السلمي ودعمها لحزب الله في لبنان.
إننا لسنا في موقع الدفاع عن هذين الموقعين، ولكننا نؤكّد أنّ الإدارة الأميركية هي أكبر مهدّدٍ للسلام بشكل وحشي فعلي، وهذا ما أثبتته الوقائع السياسية والأمنية، سواء من خلال احتلالها للعراق وأفغانستان، أو تدخّلها الاستغلالي في السودان والصومال، أو تحريكها الفوضى في لبنان وسورية، ناهيك عن جريمتها الكبرى في تشجيعها «إسرائيل» على القيام بالمجازر الوحشية بالطائرات العسكرية الأميركية المتطورة ضد المدنيين والمدافعين عن بلدهم في فلسطين، ودعم حليفتها اليهودية في فرض الحصار اللا إنساني على الشعب الفلسطيني.
ثم، إذا كان الرئيس بوش يتحدث عن دعم إيران للمقاومة في فلسطين ولبنان، فلماذا لا يتحدّث عن دعمه المطلق للدولة اليهودية أمنيا واقتصاديا وسياسيا؟
وإذا كان الملف النووي الإيراني السلمي يشكّل خطرا على السلام، فماذا يقول عن الترسانة النووية الإسرائيلية التي تلوّح بها في تهديدها لإيران والمنطقة، التي تلتقي مع خطة الفوضى الأميركية في العالم؟
إننا نقول له: مََنْ كان بيته من زجاج فلا يرمِِ الناس بالحجارة، وعليه أنْ يعلم أنّ الكراهية لإدارته سوف تمتدّ في كل مواقع العالم العربي والإسلامي، وسوف تكون الكلمة الحاسمة للشعوب التي لا تجد في هذا الرئيس إلاّ صورة الوحش الذي يفترس العالم كلّه.
في ستينية الاغتصاب: تأييد غربي ومباركة بابوية
وفي هذا الجو، احتفلت «إسرائيل» بالذكرى الستينية لاغتصابها فلسطين، معتمدة على التأييد الغربي الذي زرعها في قلب العالم العربي، من أجل خلق المشكلات المتنوعة في داخله، من دون أن يتحرك وجدان هذا الغرب بأية نبضةٍ إنسانيةٍ ضد كلّ ما تقوم به «إسرائيل» في مواجهة الشعب الفلسطيني من اغتيالات واجتياحات وحصارات، لأنه لا يؤمن بإنسانية هذا الشعب، بل يؤمن بإنسانية الشعب اليهودي.
وليس بعيدا من ذلك، فقد قرأنا تصريح البابا الذي شكر الله «لامتلاك اليهود أرض أجدادهم»، وعبّر عن امتنانه وأمنياته الصادقة لمناسبة الذكرى الستين لإقامة دولة «إسرائيل». ونحن في الوقت الذي نأسف لهذا التصريح الذي لا ينسجم مع القيم الروحية الإنسانية التي تمثلها المسيحية الأصيلة، نسأل حضرة البابا: أينَ هي القيمة الإنسانية الحضارية في طرد اليهود لشعب بأكمله، وإيقاع المجازر الوحشية بحقه منذ بداية تأسيس هذا الكيان وإلى الآنَ؟ وهل إنّ وجود اليهود في فلسطين قبل آلاف السنين يجعل هذه الأرض ملكا لهم من الناحية الدينية؟ وهل إن المسيحية تؤمن بهذه الشرعية القائمة على الظلم والاغتصاب التي ترفضها كل الأسس العلمية التاريخية الحضارية؟! ولا ندري لماذا لا يتحدّث البابا بصراحة عن مجازر اليهود وحصارهم التجويعي والخدماتي للشعب الفلسطيني، أو عن حق العودة للاجئين المشرّدين في أنحاء الأرض، ألا يستحق ذلك كلمة منه؟ وهل يكفي أنْ يتحدّث عن تخفيف آلام هذا الشعب أو عن السلام من دون أية تفاصيل، أو من دون أن يقول لليهود الغاصبين: أخرجوا من أرض فلسطين؟
إننا نسأل حضرة البابا: لو كان السيد المسيح حاضرا الآنَ، فهل يرضى باغتصاب فلسطين من قِبَل اليهود وطرد أهلها منها؟ وهل يبعث بتبريكاته للصهاينة في الذكرى الستين لاغتصابها؟ لقد طرد السيد المسيح اللصوص من ساحة الهيكل، فهل كان ليتقبّل لصوص الأوطان في فلسطين؟
إنّ ألمانيا التي يتحدَّر منها حضرة البابا، هي التي اضطهدت اليهود الذين أكرمهم العربُ والمسلمون واحتضنوهم في بلادهم طوال قرون، ولذلك فقد كان من الأولى أنْ تمنحهم ألمانيا، أو الغرب بشكلٍ عام، موقعا في أيّ أرض غربية ليكفّر عن خطيئته، لا أن يساعدهم في طرد شعب بأكمله من أرضه.
اللبنانيون يريدون الخروج من النظام الطائفي
إنّ التسوية اللبنانية التي خرجت بعملية قيصرية لم تكن لتتم لولا تظافر الكثير من العوامل الخارجية والداخلية التي شكلت منطلقا للخروج إلى فضاء سياسي جديد، نأمل أن يطل على مرحلة أكثر رحابة، سواء على مستوى الخطاب السياسي أو على مستوى الحركة والموقف.
وإن التجربة التي عاشها اللبنانيون في السنوات الأخيرة والتي أفسحت المجال لكثير من العناصر الخارجية أن تدخل على خط حركتهم الداخلية لتعطّل إمكانات الحل أو الحلحلة، كانت من أصعب التجارب وأخطرها، وخصوصا في ظلّ الحرب الإسرائيلية على لبنان والتي صنعت واقعا من الآلام والمآسي والقلق على الرغم من الانتصار الذي تحقق... وإنّ من المفترض أنْ تفسح هذه التجارب في المجال أمام اللبنانيين جميعا، وخصوصا من هم في مواقع المسئولية، أن يعملوا لإخراج البلد من دائرة التجاذب السياسي إلى واقع الحلول العملية المرتكزة على قاعدة متينة وصلبة.
إننا في الوقت الذي نعرف أنّ ثمّة جهودٍ لبنانية كبيرة قد بُذلت، وأنّ الموقف الشعبي اللبناني الحاسم الرافض - بشكل وبآخر - لعودة المتحاورين ما لم يصلوا إلى نتائج حاسمة في حوارهم قد ساعدا في الوصول إلى ما تمّ التوصّل إليه، ولكننا نعرف أيضا أن هناك الكثير من المعطيات التي تحركت على مستوى المنطقة ساهمت في خلق مناخات ملائمة ومكّنت اللبنانيين من العودة بتسوية، نأمل أن تمهّد لوفاق شامل لينتقل البلد من مرحلة المراوحة السياسية إلى مرحلة الإنتاج السياسي الحقيقي، الذي يرفع عن البلد كاهل الضغط الاقتصادي والمعيشي والتوتر الأمني الذي نأمل أن لا نلتقي به مجددا عند المنعطفات السياسية في المنطقة أو في الداخل، وأن يكون الذي حصل إنذارا للجميع ليحركوا خطاباتهم ومواقفهم وقراراتهم بما يحفظ للبلد توازنه وبما لا يمثل تحديا للبنان في قضاياه الحيوية والمصيرية.
إننا نعرف تماما بأن مشكلة المشاكل في لبنان تتمثّل في النظام الطائفي القادر على استجلاب المشاكل بين مرحلة وأخرى، وعند هذا المنعطف أو ذاك، كما نعرف بأن ملامسة هذه المشكلة لا تزال في نطاق الممنوعات السياسية التي تتحفظ عليها الزعامات من هنا وهناك، ولكننا ندرك تماما بأن هناك في لبنان ما يمكن أن نطلق عليه اسم الأكثرية الصامتة أو حتى الناطقة من كل الطوائف التي تطمح لمقاربة المشاكل اللبنانية على مستوى الجذور ومن خلال العمل لإخراج البلد من شرنقة النظام الطائفي.
ولذلك فإنّ هذه الأكثرية تستحق بأن يؤخذ رأيها بعين الاعتبار وأنْ يبدأ الجميع بدراسة الصيغ التي من شأنها أنْ تجنّب البلد خضّات سياسية وأمنية كبرى بين وقت وآخر، وهو الأمر الذي نأمل أن تعكف الطبقة السياسية على وضعه موضع التداول، فلعلّ الخلاص الحقيقي يبدأ من هنا لا من خلال التحاصص السياسي والانتخابي الذي يطل برأسه عند هذا الحدث أو ذاك ليوحي للبنانيين بأنه يمثل خشبة الخلاص الوحيدة في هذا الأتون السياسي والاجتماعي والاقتصادي المتفجر.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2086 - الخميس 22 مايو 2008م الموافق 16 جمادى الأولى 1429هـ