العدد 2086 - الخميس 22 مايو 2008م الموافق 16 جمادى الأولى 1429هـ

التجربة التركية ومحاولة الجمع بين المتعارضات

الإسلاميون ومأزق السياسة في مجال الممارسة (11)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

واجهت خطوة أربكان التصالحية اعتراضات كثيرة وخصوصا من جماعات الجهاد وتنظيمات الجماعة التي هي أصلا لم تعترف بسياسته التسووية قبل أن ينجح في تشكيل حكومته، ففي نشرة «الفجر» أوردت أخبار أربكان وتهكمت على أسلوبه ومراهناته، فذكرت تحت عنوان «تركيا: أربكان... أحلام طوباوية» لتفسير سبب إخفاقه الأول حين كلف بتشكيل الحكومة «سقطت التجربة الديمقراطية الجاهلية في تركيا من جديد حيث أبعد حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان (79 سنة) عن السلطة على رغم فوزه فيما يسمى بالانتخابات في ديسمبر/ كانون الأول الماضي»، وأضافت «لأن الديمقراطية كما يسمونها لعبة، وهي غير إسلامية أصلا، ولذلك يفشل الإسلاميون في كل مرة لأنهم يلعبون على أرضية لا يحسنون التعامل معها وكذلك لأنهم يلعبون وفق شروط وقواعد نظم وضعها الخصم». وتهاجم نشرة «الفجر» في العدد 13، الجيش لأنه سبق لهذا الجيش «أن مارس هوايته المفضلة في الحفاظ على شكل اللعبة ثلاث مرات عن طريق الانقلابات العسكرية وذلك سنة 1960، 1971 و1980». وتنصح النشرة أربكان «أن يستوعب القضايا السابقة ثم يرجع إلى الكتاب والسنة حتى يجد الطريقة المثلى والشرعية التي يمكن من خلالها أن يقيم حكما إسلاميا حقيقيا لا مزيفا، ولو فعل أربكان ذلك لما أصابه الاضطراب والتناقض...». (الفجر، السنة الثانية، العدد 13، 1996).

على رغم سخرية النشرة من إخفاق أربكان الأول في تشكيل حكومته لا توضح ما هي الأساليب التي ينبغي أن يلجأ إليها غير اللعبة الديمقراطية. فالمسألة بقيت ضمن الاعتراض والسلبية ولم تتطور إلى اقتراح عملي أو ميداني غير العودة إلى الكتاب والسنة. فهي لم ترشده إلى ممارسة العنف والقوة مثلا ولم تطالبه بالاعتماد على «أقلية» سياسية للانقلاب على الدولة وجيشها. وهذا يشير إلى انسداد آفاق البدائل وعدم توافرها حتى عند الجماعات التي تمارس العنف وترفض اللعبة الجاهلية.

فور حصول المصافحة بادرت الجماعات الإسلامية وتنظيمات الجهاد إلى شن حملة ضد أربكان واتهمته بالتراجع عن برنامجه الانتخابي وبتعهده احترام أفكار مؤسس الجمهورية التركية (كمال أتاتورك) والحفاظ على اندماج تركيا بالمجموعة الأوروبية ومحاربة القوى الانفصالية إلى زيارته قبر أتاتورك وسكوته على الاتفاق العسكري مع «إسرائيل» وغيرها من النقاط التي أثارتها أيضا القوى العلمانية المتطرفة. فالموقف الوسطي أثار حفيظة الجهتين المتطرفة والاستئصالية. الإسلاميون استنكروا تراجعه لأنه خيب آمال المسلمين وتفكيرهم باحتمال عودة تركيا «إلى ماضي مجد الخلافة الإسلامية»، واستهجن العلمانيون براغماتية أربكان لأنه خيب آمالهم أيضا وأحبط خطة تحريضهم الجيش على الانقلاب وإنقاذ جمهورية أتاتورك من دهاء أربكان. (الفجر، السنة الثانية، العدد 17، 1996).

إذا لم تقتصر صدمة أربكان على جهة الإسلاميين بل أحدثت دويا في جهة العلمانيين أيضا لأن الفريق الأخير كان يراهن على الجيش لإعادة ضبط المجتمع ووضعه من جديد تحت رقابة الدولة وملاحقاتها الايديولوجية والدستورية لعناصره الاجتماعية والتقليدية. بدورها لم تلحظ جبهة العلمانيين عملية التحول وبلوغ الأتاتوركية مرحلة الشيخوخة في وقت مازال المجتمع يجدد شبابه، كذلك لم تستوعب حاجة الأتاتوركية للإسلاميين لحماية الدولة من التفكك الاجتماعي والانهيار التاريخي، انها سخرية القدر وفي الآن حاجة تاريخية.

لاشك في أن أربكان التقط تلك المفارقة واكتشف أن الفترة هي مرحلة تسوية لابد منها لإنقاذ تركيا من الانقسام والتقسيم، فتركيا الآن تمر في مرحلة انتقال تتحرك فيها مختلف القوى من مدنية حديثة وأهلية تقليدية في وقت واحد، ولابد من المصالحة بينهما لإعادة تركيب الدولة وتوحيدها في سياق يندمج فيه الجديد مع القديم في شكل ثنائي. ودائما يتضمن نموذج مرحلة الانتقال ذاك الشكل الاجتماعي الثنائي الذي يربط خصائص الهيئات الأهلية بالمؤسسات المدنية ويعيد توظيفها لتخدم مهمات محددة تلبي حاجات فترة تاريخية شديدة التعقيد، في وقت بلغت الأتاتوركية سن اليأس ولم تعد تمتلك الوسائل والحيل التي استخدمتها سابقا لتأجيل عملية التحول التاريخية. فالجيش الذي سبق وتدخل ثلاث مرات لإنقاذ الأتاتوركية في انقلابات سنوات 1961 و1971 و1980 بات الآن في حال لا يحسد عليها، فإذا تدخل وقام بانقلابه الرابع ستكون الدولة نفسها مهددة بالانهيار الشامل والتفكك الوطني والاجتماعي، وإذا ترك السياسة للقوى العلمانية فإنها ستقود البلاد مجددا إلى مأزق يعطي دفعة شعبية للتيار الإسلامي يجعله سيد الموقف في الانتخابات المقبلة (الانقلاب حصل وفاز الإسلاميون لاحقا).

بين الخيارين انحاز الجيش إلى خيار ثالث وهو حماية الدولة بالقوى الشعبية الإسلامية والضغط على العلمانيين للقبول بهذا الموقف التصالحي الذي يضمن توازن المصالح ويعيد تركيب الهيكل الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي ومعادلة السلطة بشكل ثنائي تتعايش في نموذجه مختلف القوى الحديثة والقديمة والمدنية والأهلية والعلمانية والإسلامية. فالنموذج الانتقالي هو شكل مركب لمرحلة تاريخية تتداخل فيها القوى التقليدية والأنماط الحديثة، وهو بدوره يحتاج إلى وعي مركب يجمع تلك الثنائيات في فترة تشهد البلاد تغييرات تلعب فيها الأنماط التقليدية دور الدافع للتحول السياسي، فالتحديث أنتج نقيضه (الإسلام) وبات بحاجة إليه ليستكمل التحول.

تمثل تركيا ذاك النموذج المتناقض الذي تتعايش في داخله تعارضات أخرى تجمع بين الموروث والجديد والتقليدي والحديث والمؤسسات المدنية والهيئات الأهلية، وكان على الدولة أن تختار بين الحل الإنقاذي وتفتح الباب للقوى الإسلامية لتلعب دورها التاريخي (تجربة الثنائي أردوغان - غل لاحقا) وبين الحل الجزائري فتنقلب على المجتمع وتعرقل تطوره وتؤخر الاستحقاق التاريخي فترة زمنية ستكون محدودة على أي حال. فالتعارض الموجود حاليا في الجزائر وتركيا ليس خاصا بل هو نموذج عام ومنتشر في معظم دول العالم الثالث وهو أكثر بروزا في دول العالم العربي - الإسلامي، إذ هناك ما يشبه التساكن الثنائي بين المدينة والريف، والمناطق الصناعية والمناطق الزراعية، وبين أهل الساحل (البحر والنهر) وأهل الجبال، وبين الأكثرية الكبرى والأقليات الصغرى، وبين القوى الحديثة الحضرية والقوى التقليدية القبلية والجهوية، وبين الموروث المؤسس على الاجتماع الطبيعي وبين الجديد المؤسس على الهيئات الاجتماعية.

اختارت تركيا نموذج إعادة تشكيل الشخصية التاريخية للمجتمع بإشراف الدولة الأتاتوركية ورقابة جيشها وبمساعدة قوى تقليدية معادية للنموذج العلماني، ورفضت الخيار العسكري الجزائري الانقلابي الضيق الأفق الذي لو اتبعته لكانت كلفته الإنسانية والعمرانية والاقتصادية أضعافا مضاعفة لكلفة التسوية التاريخية التي تم تأخيرها ثلاث مرات وبات من الصعب تأخيرها مرة رابعة وخامسة. فالدولة اكتشفت عجزها وبات عليها التكيف مع البيئة السياسية - الثقافية المتوارثة لتعيد التوازن المفقود للمجتمع وتعقد المصالحة التاريخية التي أكدها وحدد شروطها حزب النهضة التونسي في برنامج مؤتمره الأخير، وهو برنامج يعكس رغبة في تكييف حاجات المجتمع مع متطلبات مرحلة انتقالية تتعايش فيها ثنائيات القديم والجديد، والتقليدي والحديث.

تمثل تجربة أربكان (أسقطت بانقلاب) خطوة بالغة الأهمية في توليد صدمة سياسية ردود فعلها متباينة في مستوى اكتشاف قوانين الوعي المركب من متناقضات يمكن جمعها في حالات معينة، وهذا يمكن توقعه مهما كانت نتائج التجربة وخلاصاتها. فصدمة أربكان صدمة مزدوجة طالت المعسكرين العلماني والإسلامي وربما يمكن اعتبارها بداية تأسيس للمجتمع السياسي الذي يتشكل وعيه التاريخي من عناصر مفككة لم تجتمع سابقا ويمكن اجتماعها مصلحيا في لحظة حصول توازن في المعادلة البرلمانية، فالتقاط اللحظة الزمنية يشكل نقطة تجاذب في الوعي الجمعي.

أربكان حاول أن يركب عناصر متنافرة لإنقاذ الدولة العلمانية (الأتاتوركية) من حال الانهيار وفي الآن حاول دفع المجتمع لاستعادة دوره السياسي بعد إخفاق محاولات تغييب هويته الحضارية. ويمكن إدراج محاولة أربكان، بغض النظر عن نجاحها أو إخفاقها، في سياق الوعي التاريخي الانتقالي الذي يزاوج بين المتناقضات ويوفق بينها من دون أن تشكل انتكاسة كبرى لتجربته الطويلة.

بقي السؤال ما هي خلاصات النموذج التركي النظرية وكيف يمكن فهم تلك المسيرة الطويلة؟ تمثل التجربة الأتاتوركية النموذج التاريخي لمسار المنطقة في القرن العشرين، وإذا كانت هناك فائدة من التجربة فإنها على الأقل تدلنا على كسب الوقت واختصار الوسائل حتى لا يضيع الزمن في لحظة يشهد العالم تحولات كبرى. فقراءة دروس نهايات التجربة الأتاتوركية يعود بنا إلى بداياتها عندما انقلبت الدولة (النخبة) على المجتمع وأخذت تعيد هيكلته بحسب مزاج الحاكم وتصوراته الفردية.

استخدمت الأتاتوركية كل الأدوات لفصل المجتمع عن هويته الدينية - الحضارية وابتكرت كل الطرق لمنع الناس من الكتابة بأبجديتهم وفرضت عليهم أبجدية لاتينية، واختارت لهم أرقى الدساتير الأوروبية وترجمتها إلى التركية واعتمدتها كقوانين علمانية للدولة، ومنعت الاذان بالعربية، وحرمت المرأة من حرية ارتداء الحجاب، وضغطت على الرجل لخلع العمامة والطربوش، واستباحت الأقليات غير المسلمة لتحقيق التجانس في قاعدة الدولة الاجتماعية، ولاحقت الأقليات المسلمة ومنعتها من استخدام لغاتها القومية وارتداء ملابسها الوطنية... وتم كل ذلك وغير ذلك باسم التقدم والحداثة والتحديث.

بدأت المسألة بتفكك السلطنة، ثم أخذت عناصر التفكيك تهدد تماسك الدولة القومية من جديد فانتهى أمر الأتاتوركية بعد أكثر من 80 سنة من التقلبات والانقلابات إلى الرضوخ للأمر التاريخي واضطرت إلى اللجوء إلى التسوية مع الواقع. وقبول المؤسسة العسكرية بأربكان الإسلامي رئيسا للحكومة بداية تحول جذري في تفكير الدولة يعود بها من جديد إلى تلك الفترة الانتقالية التي تفصل إصلاحات السلطان عبدالحميد الثاني في 1870 والانقلاب عليه في 1908 قبل الانقلاب على السلطنة في الحرب العالمية الأولى. أربكان الإسلامي يمثل عودة إلى تلك الحلقة الوسيطة بين الفترة السلطانية والفترة الأتاتوركية، وهو يمثل النموذج البديل الذي يجمع الضدين في مرحلة تحتاج تركيا إلى محاولة لتحقيق المصالحة المفقودة مع المجتمع واكتشاف قوانين التوافق والتراضي بين الدولة وهوية الجماعات التي تعيش في الوطن.

بات على تركيا اليوم أن تعود، بعد أن خسرت الوقت الثمين، إلى نقطة البداية لتباشر من جديد رحلة التوافق بين الدولة والمجتمع بعد أن أخفقت التجربة في كسر الشخصية التاريخية لتركيا. فهل تستفيد الدول العربية (النخب الحاكمة) من سلبيات التجربة الأتاتوركية وتكسب الوقت لتقوم بتأسيس المصالحة السياسية بين الدولة والجماعات الأهلية أم أنها ستكرر تلك التجربة لتعود بعد حين إلى اعتماد خيارات الناس وما يتوافق مع شخصيتهم التاريخية؟ هذا هو السؤال.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2086 - الخميس 22 مايو 2008م الموافق 16 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً