أذكر ومن خلال حوار عقيم مع أحد «قيادات» إحدى التيارات «الإسلامية» الملمعة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا في مشهدنا المحلي، وقد تطرق الحديث إلى مناقشة «العلمانية» وما أثاره هذا الاصطلاح من عاصفة ترابية من الجدل والخوف والترويع في أوساط «التيارات الإسلامية» ليس محليا وإنما إقليميا وعالميا، فباتت في أعرافهم وتصوراتهم الخطابية لكأنما هي فيروس مختبري أطلق العنان لإفنائه من المختبرات الغربية تجاه العوالم العربية والإسلامية بدلا من أن تكون سيرورة تاريخية واجتماعية وثقافية تراكمية طبيعية!
وما ان تناولنا جملة من مواقف وأداء هذه التيارات في البرلمان وفي ساحة الحراك السياسي والمحلي وتم نقدها وتضاربها في النهاية مع بعض القيم والثوابت الإسلامية بل وابتعادها عنها في أحيان أخرى، حتى أشار هذا «القيادي» إلى أن المنطق السياسي يختلف عن المنطق الديني ولابد من المقارنة بين «المصالح» و»المفاسد» وقياس الحلول والإمكانات عقلانيا ونسبيا دون الخوض في مغامرات ومجازفات وبيلة تضر بمصلحة الجميع، وهو من دون شك قول واعٍ وجميل وخصوصا إن أتى من هذا «القيادي» على وجه التحديد، ولكن النقطة الساخنة مثار النقاش الجدلي هي بما أن هنالك تباين وافتراق جوهري بين طبيعة المنطق السياسي والمنطق الديني «الرومانسي» و»المثالي»، وبما أننا إزاء «مصالح» و»مفاسد» تجلي آلية سياسية بحتة يتم في النهاية تغليبها على منطق الدين والشرع عند كل منعطف ومفترق من أجل «المصلحة العامة»، فلماذا إذا يتم حينها اعتماد ما قد يفسر على أنه تضليل للجماهير حينما ينادى بتطبيق «السياسة الشرعية» و»المنهج الإسلامي السياسي» طالما أنهم في النهاية لن يختلفوا في طرحهم عن «العلمانيون» و»اليسار» في الالتزام بذات القوانين المنطقية لللعبة والمضمار السياسي المتاح؟!
هل هي مجرد حالة من الرهاب والفوبياء تجاه مصطلحات محددة أم أن «بضاعتكم ردت إليكم»؟!
كما وتناول الحديث المتماوج بعدها في مفارقات عجيبة موضوع نظرية تشارلز داروين وموقف الرفض الكلي الحازم تجاهها من قبل نخب وعوام هذه التيارات، إلا أنني أخبرت أخونا «القيادي» بأنه لماذا يتم التعامل بصلافة وصدود «جهادي» تجاه داروين ونظريته «النشوء والارتقاء» في حين أن أفضل تطبيقاتها ونماذجها الآخذة في الاحتذاء وبالأخص ما بات يعرف ويتداول بـ «الداروينية الاجتماعية» إنما نجده في دخول العديد من أبناء التيار «الإسلامي» في ساحة العمل السياسي والبرلماني الذين أثبتوا أنها أفضل الطرق للثراء السريع والصعود والتسلق الاجتماعي؟!
هل هنالك من مشكلة ثأر شخصي مع داروين الذي تطبقون نظرياته ولو بقالب اجتماعي وسياسي وسياحي؟!
لقد ذكرني هذا الحوار بما قاله المفكر الكويتي البارز عبدالله النفيسي الذي يعد من أبرز أقطاب الحركات والتيارات الإسلامية السياسية في منطقة الخليج وذلك في نقد واقع هذه التيارات في ندوة له بعنوان «أثر التحولات العالمية والإقليمية على مواقف التيار الإسلامي في الخليج» وقد أقيمت بالدوحة، حيث أشار النفيسي إلى وجود ثلاث أزمات رئيسية في الخليج يمكن أن تقاس حاليا من خلالها فاعلية «الحركات الإسلامية»، وهذه الأزمات هي أزمة الطغيان السياسي التي يرفدها خلط الحكم السياسي بالتجارة، وأزمة سوء توزيع الثروة، وأزمة التحلل الاجتماعي بجانبيه المؤسسي والأخلاقي، واستشهد النفيسي بقصة من كتاب «تاريخ الخلفاء» للأسيوطي أشار من خلالها إلى الموقف الشرعي من تحريم خلط التجارة بالحكم السياسي، حيث تحدث عن قصة الخليفة أبوبكر الصديق (رضي الله عنه) حينما خرج من سقيفة بني ساعدة بعد مبايعته وأراد بيع بعض أثوابه لكسب الرزق الحلال فاعترض أصحابه على ذلك وسمحوا له ببيع شطر شاة فقط فقبل بذلك، فكيف هي الحال إذا في مشهدنا المحلي والإقليمي؟!
وأشار النفيسي إلى أنه يوجد هنالك نوعين من الإسلام هما الإسلام الميكانيكي والإسلام الديناميكي، وبين بأن الإسلام الميكانيكي وهو المرتبط بالطقوس والشعائر فقط هو ما نلمس من خلاله واقع وحقيقة تلك الحركات والتيارات الإسلامية التي انشغلت بأمور شكلية واهتمت بأدوار هامشية جدا، وذلك على العكس من الإسلام الديناميكي الذي يعقب الإسلام الميكانيكي ويفترض هنالك وجود أفق سياسي ينطلق في ضوئه العمل، وهذا الصنف غير موجود بالمرة في الخليج!
واستدل النفيسي بالتحذيرات التي أطلقتها الباحثة الفرنسية هيلين دانكوس في التسعينات من خطورة وصول «التيار الإسلامي» إلى موقع القرار النفطي الخليجي إلا أن النفيسي طمأن الباحثة إلى أنه لا داعي للقلق من ذلك فالتيارات الإسلامية قد دخلت في «بزنس» مع الأنظمة الخليجية باستثناء «القاعدة» ولا داعي للقلق منها!
واختتم محذرا بأن التيارات الإسلامية طالما أنها لم تواجه بفاعلية ثالوث الطغيان السياسي وسوء توزيع الثروة والتحلل الاجتماعي فإنها ستقضي بذلك على مستقبلها!
ولا أدري ماذا سيكون عليه حال النفيسي إذا ما أخبرناه بأن ما لدينا في البحرين هو دون الإسلام الميكانيكي، بل هنا يوجد الإسلام التكتيكي والإسلام «الآستيكي» الذين أفلح الكثير بحسن استخدامه واستغلاله وكان الله غفورا رحيما!
كما هم أفلحوا في بلادنا بتدشين بلد المكرمات والصناديق الخيرية والإعانات المعيشية الفاضحة والزواج الجماعي وتوزيع أكياس «العيش» و»ادباب الدهن» برسم انتخابي بدلا من خلق المواطن والوطن الصالح الذي يكفي ويكتفي فيه الجميع بدوره الإنتاجي الذاتي وبمسئولياته الاجتماعية وينل كامل حقوقه الدستورية الأصيلة!
وللتذكير فقد طرح البعض قبل أن يصل إلى البرلمان مشروع تطبيق الزكاة على الجميع ولم نر من هذا المشروع أثرا حتى هذه اللحظة!
وقد صدق الراحل جورج حبش حينما قال إن أفضل اختبار لفاعلية ومصداقية «الحركات الإسلامية» هو عبر إيصالها إلى مقاعد السلطة
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2085 - الأربعاء 21 مايو 2008م الموافق 15 جمادى الأولى 1429هـ