العدد 2084 - الثلثاء 20 مايو 2008م الموافق 14 جمادى الأولى 1429هـ

تأملات في العلاقة بين الدول العربية ومنظمة العمل الدولية (1)

عدنان خليل التلاوي comments [at] alwasatnews.com

بعد مرور تسعين عاما على قيامها تحتفل منظمة العمل الدولية، في العام المقبل بهذه المناسبة قصد اثارة واستقطاب اهتمام الاسرة الدولية بهذا الحدث التاريخي ودلالاته، وذلك من أجل تجديد الثقة بهذه المنظمة العريقة التي حصلت بجدارة على جائزة نوبل للسلام عند احتفالها العام 1969 بمرور خمسين عاما على تأسيسها. لقد كان عدد الدول المؤسسة هو 39، ويبلغ في الوقت الراهن 181 دولة.

واذا كانت الاستعدادات جارية على قدم وساق في المنظمة ذاتها وفي محافل عدة من أجل المساهمة في هذه الاحتفالية - كل من رؤيته للمنظمة - وبما يليق بهيبة وتراث المنظمة، فإنه حري بالمجموعة العربية أن تجعل من هذه المناسبة فرصة تاريخية سانحة تتيح لها - دول وهيئات عربية مكونة لمنظمة العمل الدولية، ومؤسسات جامعة الدول العربية - أن تغتنم هذه المناسبة لتقييم دورها ومراجعة اسهاماتها وتحليل ما تحظى به مبادئها وقيمها من تطبيقات وممارسات على ارض الواقع، مع محاولة صوغ رؤية عربية تستشرف العلاقات المستقبلية في التعاون والتعامل مع هذه المنظمة.

ومن هذا المنظور تندرج هذه الدراسة الموجزة كمساهمة متواضعة من مواطن عربي كان له شرف متابعة فعاليات هذه المنظمة لسنوات. وسأحاول في هذه السطور أن استعرض الخصائص العامة لهذه المنظمة، موضحا في الوقت ذاته اطار الاسهامات أو الاخفاقات العربية التي واكبت مسيرة وفعاليات هذه المنظمة، وخصوصا مع بدايات المشاركة العربية الفاعلة منذ منتصف الستينيات وتحديدا مع بدء اجتماعات المجموعة العربية في جنيف بمناسبة انعقاد الدورة السنوية لمؤتمر العمل الدولي، والتي انبثقت خلالها فكرة انشاء منظمة العمل العربية.

بداية، نذكر أن منظمة العمل الدولية تعد من اقدم المؤسسات الدولية وأكثرها عراقة وشعبية ونفوذا في المحيط الدولي. فقد أنشئت في العام 1919 في فترة زمنية كان فيها العالم يضمد جروحه نتيجة اول حرب عالمية مدمرة استنفدت من البشرية قدرا وطاقات لم تعرف الانسانية حجم وفداحة خسارتها حتى هذا التاريخ.

كما غيرت هذه الحرب من الكثير من المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية السائدة عند بداية هذه الحرب في العام 1914.

مع انعقاد مؤتمر السلام، وبدء المناورات السياسية لتقسيم العالم بين الامبراطوريات الاوروبية، تشكلت لجنة لدراسة مسألة التشريع الدولي للعمل، ضمت في عضويتها - بالاضافة الى الوفود الحكومية للدول المنتصرة - عناصر غير حكومية (ولاسيما ممثلين عن عالم العمل والحركة النقابية العالمية) كانت مهمتها محددة على الوجه الآتي: «اجراء استقصاء عن شروط تشغيل العمال من المنظور الدولي، ودراسة الوسائل الضرورية لكفالة عمل مشترك بشأن الموضوعات المتصلة بشروط تشغيل العمال، واقتراح شكل التنظيم الدائم، ومتابعة هذه الاستقصاءات ودراستها بالتعاون مع عصبة الأمم وتحت ادارتها».

وفعلا، بعد مفاوضات عسيرة غلب عليها تأثير الفكر الغربي السائد آنذاك الذي يرفض النظريات الجديدة التي تنشرها المذاهب الشيوعية التي تفسر التاريخ بصراع الطبقات وحتمية سيادة الطبقة العاملة (البروليتاريا)، رأت منظمة العمل الدولية (التنظيم الدائم) النور مع انعقاد اول دورة لمؤتمر العمل الدولي في نفسه العام 1919 (دون انتظار توقيع معاهدة السلام في فرساي) في العاصمة الاميركية (واشنطن) بمشاركة 39 بلدا.

وتلا ذلك عقد أول اجتماع لمجلس ادارة مكتب العمل الدولي، واختيار اول مدير لمكتب العمل الدولي الذي ارسى اول تجربة دولية رائدة لتأسيس أمانة فنية دائمة لمنظمة دولية، وهي مكتب العمل الدولي الذي ضم، منذ بداياته، عناصر من الموظفين الدوليين الذين ينتمون بالولاء للمنظمة، من دون تلقي تعليمات أو توجيهات من بلدانهم الاصلية.

الطبيعة القانونية لمنظمة العمل الدولية

تستمد منظمة العمل الدولية قوتها المعنوية والادبية وكذلك ثقلها الدولي المؤثر من الطبيعة القانونية للمنظمة ذاتها التي تستند الى الصيغة الفريدة (في أدبيات القانون الدولي للمنظمات) المتمثلة في التكوين الثلاثي للوفود الى هذه المنظمة، بمعنى مشاركة عناصر الانتاج التي يطلق عليها التسمية الشائعة «الشركاء الاجتماعيين» (العمال واصحاب العمل من خلال تنظيماتهم الرسمية) في عضوية الوفود الرسمية في المنظمة.

ولعل هذه الصيغة المتميزة هي التي كفلت للمنظمة ميزة الاستمرار وصفة التواصل بعد تصفية «عصبة الامم» وانشاء «منظومة الامم المتحدة» التي اعترفت عند قيامها بمنظمة العمل الدولية منذ العام 1946 واقامت معها علاقة التمثيل المتبادل والعمل المشترك والتعاون والتنسيق باعتبارها «وكالة متخصصة».

أما مصادر قوة المنظمة فتكمن فيما تستند اليه من القيم والمبادئ والاهداف وفلسفة العمل، القائمة على الاسس الآتية:

- لا يمكن تحقيق سلام عالمي ودائم إلا على اساس العدالة الاجتماعية.

- ظروف العمل التي تنطوي على الظلم والمشقة والحرمان بأعداد كبيرة من الناس تولد سخطا يعرض السلام والوئام العالمين للخطر.

- العمل ليس سلعة.

- حرية الرأي وحرية الاجتماع أمران لا غنى عنهما لاطراد التقدم.

- الفقر اينما كان يشكل خطرا على الرفاه في كل مكان.

- لجميع البشر، أي كان عرقهم أو معتقدهم أو جنسهم الحق في العمل من اجل رفاهيتهم المادية وتقدمهم الروحي في ظروف توفر لهم الحرية والكرامة والأمن الاقتصادي وتكافؤ الفرص.

وفي الواقع ان هذه الاسس والمبادئ التي بلورتها حكمة وحصافة مؤسسي منظمة العمل الدولية سواء العام 1919 بالنص عليها في الدستور الاصلي للمنظمة (الوارد تحت عنوان «العمل» في القسم الثالث عشر من معاهدة فرساي) أو بعد ربع قرن في العام 1944 عند صوغ الاعلان الخاص بأهداف ومقاصد من منظمة العمل الدولية (المعروف باعلان فيلادلفيا) - والذي يعد جزءا لا يتجزأ من الدستور - كانت جميعها مصدر إلهام لواضعي ميثاق الامم المتحدة، وتتلخص خصوصا في ديباجة الميثاق التي تعبر عن ارادة شعوب الأمم المتحدة في «تشجيع التقدم الاجتماعي وتوفير افضل ظروف المعيشة في اكبر حيز من الحرية»، وكذلك نص المادة 55 التي تقضي بأن «الأمم المتحدة تشجع الارتقاء بمستويات المعيشة، والتشغيل الكامل وشروط التقدم والتنمية في النظام الاقتصادي والاجتماعي».

ويشار الى نص الشعار الذي حفر على حجر اساس المنظمة وهو «اذا اردت السلم ازرع العدل» justitia cole pacem si vis، أما روح المنظمة التي سادت عملها وشكلت مرتكز وقاعدة فكرها ونهجها فهي تستند اساسا إلى فلسفة الحوار الاجتماعي والتعاون والتشاور بين الشركاء الاجتماعيين من اجل تحقيق التنمية الوطنية، وتطبيق قواعد العدل الاجتماعي على الصعيد الدولي، وفيما بين الدول الاعضاء، ويرمز اليها عادة بالمفاتيح الثلاثة التي تجسد فلسفة عمل المنظمة في التعاون بين الشركاء الاجتماعيين الثلاثة (الحكومة واصحاب العمل والعمال).

العضوية العربية في منظمة العمل الدولية

القاعدة العامة أنه لكل بلد عضو في منظومة الامم المتحدة الحق في أن يصبح عضوا في منظمة العمل الدولية بمجرد ابلاغ المدير العام لمكتب العمل الدولي. لذلك فإن كل بلد عربي يحصل على استقلاله كان يحرص على الانضمام الى المنظمة ادراكا واقتناعا منه بالاسس والمبادئ التي تقوم عليها المنظمة والتي تتفق في جوهرها مع المبادئ السماوية وتنسجم مع احكام الشرائع والقوانين الوطنية.

لقد كانت العراق اول دولة عربية تنضم الى المنظمة في العام 1932، وتلتها مصر في العام 1936. وتتابع انضمام الدول العربية المستقلة بعد قبول عضويتها في منظومة الامم المتحدة: سورية العام 1947، لبنان العام 1948، ليبيا العام 1952.

وفي العام 1956 انضم كل من الاردن، المغرب، السودان وتونس. وفي العام 1960 انضم الصومال، وتبعته في العام التالي (1961) كل من الكويت وموريتانيا بعد تقديم طلب الانضمام الى المنظمة مباشرة. وبعد استقلالها العام 1962 انضمت الجزائر الى عضوية المنظمة. ومع ذلك وعلى رغم استقلاله المبكر وعضويته في الامم المتحدة لم ينضم اليمن إلا في العام 1965 (أي بعد ثورة العام 1963).

في سنوات الوحدة بين سورية ومصر كان البلدان يمثلان في وفد واحد يضم اعضاء من البلدين. وعند استقلال بقية بلدان الخليج العربي كانت دولة الامارات اولى هذه البلدان، إذ انضمت العام 1972 وكذلك قطر في العام ذاته، تلتهما السعودية في العام 1976 والبحرين العام 1977.

وواجهت البلدان الخليجية (باستثناء دولة الكويت التي توجد فيها حركة نقابية عمالية)، اشكالية غياب التنظيم النقابي الذي يعد قيامه احد الشروط الضمنية للانضمام الى المنظمة. وانضمت كل من جزر القمر وجيبوتي العام 1978 فور استقلالها عن فرنسا. وتعد سلطنة عمان آخر الدول العربية في الانضمام الى عضوية منظمة العمل الدولية، وكان ذلك في العام 1994 بعد أن تابعت اعمال المؤتمر بصفة مراقب منذ العام 1991.

واضافة الى العضوية العربية الحكومية/ الرسمية تتمتع مؤسسات عربية فاعلة بصفة العضو المراقب الدائم باعتبارها هيئات رسمية معنية بمسائل العمل والعمال على صعيد الوطن العربي: منظمة العمل العربية، الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية، الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب. وقد ابرمت جامعة الدول العربية اتفاقية تعاون عام مع منظمة العمل الدولية في العام 1958 وكانت امانتها العامة تتعاون مع الوفود العربية وتنسق موقفها أثناء انعقاد دورات مؤتمر العمل الدولي، قبل أن تناط هذه المسئولية بمنظمة العمل العربية اعتبارا من العام 1973.

التزامات الدول العربية إزاء الولاية الدستورية لمنظمة العمل الدولية

يحدد دستور منظمة العمل الدولية عموما الاهداف العامة للمنظمة بما في ذلك الالتزامات المترتبة على عضوية منظمة العمل الدولية. لذلك تسعي كل ادارة عامة جديدة في منظمة العمل الدولية إلى بلورة رؤيتها لتنفيذ هذه الاهداف، وهذا تحديدا ما صاغه المدير العام الحالي لمكتب العمل الدولي في مفهومه «العمل اللائق» الذي عمل على رسم إطاره العام - من واقع رسالة منظمة العمل الدولية - في اول تقرير له الى مؤتمر العمل الدولي (الدورة 87) العام 1999، وربط ترجمة هذا المفهوم على أرض الواقع من خلال اربعة أهداف جوهرية تنساب ما بين سطور الدستور واعلانات المنظمة. وتتلخص هذه الاهداف ذات الطبيعة المترابطة والمتكاملة فيما يأتي:

1 - ضمان المبادئ والحقوق الاساسية في العمل.

2 - وضع العمالة الكاملة والمنتجة في صدارة السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

3 - وضع تدابير للحماية الاجتماعية.

4 - تعزيز الحوار الاجتماعي والهيكل الثلاثي.

وفي واقع الأمر انه منذ الشروع في تنفيذ الاستراتيجيات من منظور هذه الاهداف اعادت الهيئات العربية المكونة لمنظمة العمل الدولية ترتيب اولوياتها سواء بالنسبة إلى برامجها الوطنية أو في تعاملها مع منظمة العمل الدولية. وقد ترجم ذلك بالتصديق المتتابع على اتفاقيات العمل الاساسية، ووضع وتنفيذ برامج العمالة وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية وتشجيع الحوار الاجتماعي بين الشركاء الاجتماعيين العرب، بما في ذلك تشجيع المنشآت الخاصة.

العدد 2084 - الثلثاء 20 مايو 2008م الموافق 14 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً