كاتب كويتي يشارك للمرة الأولى بمنتدى الإعلام العربي الذي يعقد سنويا في إمارة دبي ينقل حوارا دار بين صاحب مطبوعة صحافية لبنانية ومستشار حاكم إمارة خليجية كيف أن هذا الصحافي «أفرغ» غضبه في أصحاب المال والأعمال الخليجيين الذين يديرون مؤسسات إعلامية رائجة في المنطقة وشبههم بأنهم «دخلاء» على هذه المهنة التي حولوها إلى «محميات طبيعية» تدافع عن مصالحهم!
ربما كان هذا الكلام فيه نوع من التجني ولكنه يحمل الكثير من الدلالات والمعاني. فما تسمعه في اللقاءات الجانبية على هامش المنتديات هو بخلاف ما يقال على المنابر.
القول إن الإعلام سيظل مرتبطا برجال الأعمال وأصحاب المال والنفوذ السياسي يعطي رسالة غير سوية عن دور هذه الوسائل سواء أكانت مؤسسات صحافية ودور نشر أم فضائيات ووسائل حديثة من الإعلام... ولكنه يفتح النقاش في مدرستين في العالم العربي بخصوص من يملك المؤسسات الصحافية!
الزميل والكاتب سمير عطا الله أورد مقارنة في عموده اليومي في «الشرق الأوسط» بينه وبين الأستاذ بسام فريحة الذي ورث «دار الصياد» عن والده سعيد فريحة ليقول إن بسام أخذ طريق الإدارة والمال لتوفير رواتب للعاملين في مؤسسته حتى والده، على حين بقي هو في صف القراء والكتابة، وذلك في معرض كلامه عن وجود نوعين من الصحافة نوع يمنح الشهرة والقراء ونوع آخر يتجه نحو «الإدارة والمال».
المدرسة الأولى لم تكن تملك المال ولا النفوذ السياسي بل تعاملت مع الصحافة بصفتها مهنة للكتابة ومالكيها خرجوا من بيوتات ثقافية وفكرية وسياسية أو كانوا على صلة بها وراحوا يبحثون عن وسيلة إعلامية لمخاطبة الرأي العام فكانت الصحف التي بنوها من الصفر وسهروا عليها إلى أن أصبحت معالمَ بارزة في تاريخ الصحافة والعمل الإعلامي بالعالم العربي. والأسماء كثيرة في مصر أمثال مصطفى أمين ومحمد التابعي وروز اليوسف حتى سليم وبشارة نقلا مؤسسي «الأهرام»، هؤلاء لم يهبطوا على الصحافة بأموالهم أو بنفوذهم السياسي بل أخذوا على عاتقهم مهمة ثقافية فكرية اجتماعية وناضلوا وتعرضوا للسجن بسبب أفكارهم وكتاباتهم.
وأيضا في بيروت لم تكن أسرة تويني أصحاب «دار النهار» أو سليم اللوزي صاحب مجلة «الحوادث» أو كامل مروة صاحب صحيفة «الحياة» من ذوي الأعمال والنفوذ السياسي بل امتهنوا الكتابة؛ لأنهم جزء منها ومن بيئتها.
وفي الكويت والبحرين من يقرأ تاريخ المؤسسين الأوائل للصحافة فسيعثر على أسماء كانت جزءا من حركة التنوير والثقافة أمثال عبدالعزيز حسين وعبدالعزيز الرشيد وعبدالعزيز المساعيد وآخرين في البحرين باتوا أعلاما لتلك المرحلة.
أتباع هذه المدرسة يرفضون «بيع» الصحافة لتجار الأعمال الذين يريدون السيطرة على السلطة والثروة والرأي العام معا ويقولون إذا تخلوا عن مواقعهم فسيكون من الصعوبة بمكان وجود صحافة حرة تكسر الاحتكار وتترك مهمة تصنيع العقول لجهة واحدة توظف قدراتها لحساب مصالحها وتقضي على تعددية الآراء والمعارضات سواء للحكم أو لأصحاب المال.
أما المدرسة الواقعية فقد أسقطت من حساباتها التغني بالشعارات والتوهان بتأمين مصادر دخل توفر رواتب العاملين كما كان يفعل بسام فريحة بـ «دار الصياد» أيام زمان أو بالبحث عن «واجهات» غير بريئة تستغل هذه الحاجة وتلك المنابر وتعطيها دعما ماليا غير منظور وتحوّل بالتالي هذه الصحف إلى أدوات تخدم سياساتها وأهدافها وتسقط في فخ الارتهان للخارج تحت حجة إبقاء المؤسسة أو الصحيفة على قيد الحياة.
الصحافة اليوم أصبحت صناعة تتطلب توظيف أموال لقيامها وانتشارها وتسويقها وباتت من القطاعات النشطة والمحققة لنسب نمو عالية من حيث توظيف الاستثمارات فيها وتحقيقها الأرباح.
هي اليوم باتت لعبة الأعمال وقوتها يتوقف على القدرة على استخدامها وتوظيفهها في مجال الإعلام. فأصحاب المال يدخلون هذا القطاع من باب تنويع مصادر الدخل وخدمة مصالحهم وهذا عمل مشروع لم يعد منقوصا. فالأمير الوليد بن طلال على سبيل المثال أو الأمراء الآخرون شأنهم شأن روبرت مردوخ الذي استطاع خلال خمسين عاما تحويل صحيفة أسترالية واحدة إلى شركة «نيوز كورب» واحدة من أكثر الامبراطوريات الإعلامية قوة ونفوذا في العالم ودخله يعد بالمليارات من الدولارات أو مثل وارن بوفيت الذي يملك أضخم شركة قابضة في مجال الإعلام مع مصالح أخرى تتراوح بين صناعة الملابس الداخلية والطائرات الخاصة.
أليس هناك من فسحة للفصل أو التزاوج بين تلك المدرستين أم أن الفراق واضح لا محالة؟
هناك نوع من سوء التقدير أو الفهم بالطرح وأصحاب المدرستين ليسوا بعيدين تماما كما يتصور البعض فنقاط الالتقاء أكثر من نقاط الاختلاف ولكن العقلية هي التي تغيرت مع تغير المعطيات الاقتصادية والدخول في عصر الثورات العلمية والاتصالات والتكنولوجيا الحديثة.
أصحاب الصحف من مدرسة «المهنة الخالصة» يعترفون ويقرون بأن لولا الإعلان والتمويل لما بقيت هذه المؤسسات على قيد الحياة وهم في صراع دائم للمواءمة بين الاستمرارية بنوع من القوة وتأمين الرواتب والمصروفات كل آخر شهر خوفا من الوقوع تحت العجز أو الإفلاس واللجوء إلى مصادر أخرى كالسفارات وأصحاب المال والنفوذ السياسي. يعني العودة من جديد إلى من يملك المال.
الإشكال الذي يثار عند الحديث عن «محتكري الإعلام» أن البعض يضع الكل في سلة واحدة ولا يميز بين إدارة روبرت مردوخ لامبراطورياته الإعلامية وإدارة المرحوم محمد أمين دوغان لصحيفة «الشعب» التي كان يصدرها من بيروت في الخمسينيات والستينيات.
استحواذ أصحاب رؤوس الأموال على الصحف والفضائيات والإعلام لا يعني من وجهة نظر هؤلاء الدخول في عوالم الكتابة والتحرير ومستلزمات العملية المهنية ودوراتها الفنية. فهناك هامش كبير في مساحة حرية الحركة والفعل والكتابة فالإدارة شيء والتحرير شيء آخر. يبقى دور للصحافي الذي يجهد أن يحقق النجاح وفق معايير السوق والمنافسة وأصحاب المال عادة بارعون في اختيار العناصر الكفؤة لإدارة مشاريعهم الإعلامية والحرص على تحقيق أرباح سنوية للاستمرارية والمنافسة.
ولكن هل هذا يعني أن هذه المشاريع ليس وراءها أهداف سياسية أو تخدم مشاريع سياسية أو اقتصادية؟ أغلب الظن أن لم يعد هناك مشروعات إعلامية «خالصة» للكلمة أو الصوت أو الرسالة، بل تزاوج بين أداء مهني متطور وجيد وذات مردود مالي يحقق المنفعة والبقاء ويعزز المنافسة.
إن تصدر صحيفة اليوم أو تؤسس لإطلاق فضائية جديدة يعني أن التحالف غير المقدس بين المال والإعلام مازال قائما وأعمال الصحافة والإعلام لم تعد ترفا فكريا صافيا بل مصالحَ وصناعة وأرباحا. فصناعة العقول تحتاج إلى صنّاع من نوع آخر.
العدد 2084 - الثلثاء 20 مايو 2008م الموافق 14 جمادى الأولى 1429هـ