أزمة الأيام الستة في لبنان انتهت بنصف تسوية لصالح المعارضة. لا أدري كيف قِبَلت قياداتها بأنْ تنتهي الأمور إلى حيث «المنطقة الرمادية» في حين أنّ الفرصة كانت مؤاتية لأنْ تقيم «معادلة وازنة» لثلاث سنوات عجاف خلت.
أبعاد القضية (وليس مفاعيلها) ثلاثة. دولي ألقت في أحضانه الأزمة حجرا صلدا ففرّق دولا في الغرب كما فرّق عجل السامري أصحاب موسى بن عمران، فبرز الموقف الإسباني والإيطالي ولاحقا الاتحاد الأوروبي بشكل أميز من غيره منذ اليوم الثاني (راجع اتصال وزير الخارجية الإسباني ميغل أنخل موراتينوس والإيطالي فرانكو فراتيني بنبيه بري).
وإقليمي قضى بكَسْر تابو السّردية السياسية السعودية المتمثلة في احتكار الرياض (خليجيا وعربيا) للملف اللبناني، لصالح أطراف أخرى وأهمها الدبلوماسية القطرية التي بدت وكأنها تُشيع ثقافة سياسية جديدة حيال ملفات المنطقة.
ومحلي بات يُجزم الجميع حوله بأن لبنان قبل السادس من مايو/ أيار ليس كمضمونه وشكله اليوم، ليبقي الخلاف (فقط) على تشريح الصورتين لا أكثر ولا أقل. فمن ناصَرَ المعارضة ومن ناكفها ومن تقافز بين هذا وذاك ظَفِرَ بحق النّظر والتقييم لما جرى.
برأيي أنّ المعارضة أصابت نصف المكاسب عندما حدّدت سقفها سلفا بأن ما جرى لن يتم استثماره على طاولة الحوار. ثم تآكل ذلك النصف بعد أن اقتصر تحركها على تفتيت مفاعيل الحكومة ومناشطها السياسية والحزبية والأمنية في الفضاء العام.
قد تكون «المراعاة» غير المبررة من قوى المعارضة لتحييد حكومة السنيورة من أي ضربات قاتلة جزءا من استحصالها للحل المنقوص. فمرافقها الحيوية من وزارات وهيئات ومؤسسات شريانية أصبحت مُحيّدة.
بالتأكيد لا أحد يريد تحطيم تلك التمثلات بشكلها المادي بقدر ما هو تجفيف لأجزاءٍ منها كضرورة لإجبار هذه الحكومة على القبول بالشراكة. ما ضرّ المعارضة لو أنها قرّبت آجال بعض الملفات المُلحّة وهي في أتون تحركها بدل انتظار أنْ يستوعب الفريق الآخر ضربة الخصم فيهدي خطأه للجنة الوزارية العربية وكأنه مِنّة؟!
كانت فرصة مؤاتية للمعارضة بأنْ تُنهي مجون ثلاث سنوات من القضم المنهجي لحدودها المباشرة. حكومة بتراء بلا وزراء شيعة، دعم وتدخل أميركي غير محدود حتى في التعيينات الأمنية، وتهييج الشارع المسيحي ضد الجنرال عون ومحاولة إرباك قواعده الشعبية، وتصريف شئون الدولة كافة بشكل منفرد وفج.
لقد تورّط هذا الفريق البائس في أحداث الجامعة قبل أكثر من عام، وفي مصادرة شاحنة السلاح التابعة للمقاومة، ثم في أحداث عرمون، والهجوم على العونيين في كلية الآداب، واستجلابه الشركات الأمنية الخاصة، فماذا بقي إذا ؟!
بل الأكثر من ذلك وهو سعي الموالاة نحو تحريك الحساسيات المذهبية ضد المعارضة وتحديدا ضد حزب الله من قلب عكّار منذ أكثر من سنتين وانتهاء بالجمعة التي سبقت الأحداث الأخيرة، وتكريس الجبرية السياسية حين يُمنع السنيورة من خلع قميص ألبسه الله إيّاه (راجع تصريحات مفتي عكّار أسامة الرفاعي في الرابع من يناير/ كانون الثاني 2006).
الغريب أنّ المعارضة لم تكتفِ فقط بكبح جماح تحركها في طرابلس مثلا، بل إنها أعرضت عن انتهاكات الموالاة عندما أقدمت على حرق منازل ومراكز لشخصيات معارضة، أعقبتها مجزرة حلبا في مقر الحزب السوري القومي.
إنْ كانت ردة الفعل المحدودة من قِبَل المعارضة ضد مجون صقور الموالاة هو خوفها من تحريك الأنوية المذهبية، فإنّ ذلك يصح لو لم يكن لديها مجاميع سُنّية حركية لها كعب رفيع في تاريخ لبنان كالقاضي أحمد الزين والشيخ ماهر حمّود والداعية فتحي يكن.
وبالتالي فلا أظنّ أن التقدير جاء واقعيا بقدر ما جاء مهووسا أكثر من اللازم. على أية حال فإنّ الجرد اليوم ينتهي إلى ضرورة مُلحّة يتوجّب على المعارضة تقديمها كأولوية استراتيجية للمرحلة القادمة، تتعلّق بوجودها داخل الطوائف.
فعلى مستوى الطائفة السّنيّة العريقة في لبنان، يجب الالتفات أنّ تاريخ الإسلام السُّني (الحركي) في عمومه وأيضا في تفصيله كان نصيرا حقيقيا لخط الممانعة في لبنان، وداعما قويا للحركات الفلسطينية النضالية حتى على حساب علاقته بدمشق إبّان جفائها الفاقع مع أبي عمّار.
ضمن هذه المفردة فإنّ المعارضة عليها مسئولية جسيمة في تصحيح هذا الغُبن الطارئ على تاريخية الإسلام السُّنّي في لبنان. فإذا كانت الأموال تُجبى من كل مكان لتشييد صِيَغ سياسية مُحددة داخل الطائفة السّنّية العريقة فما المانع من أنْ تجبى مثيلاتها لإقامة أحزمة سياسية سُنّية نافذة وعصيّة تصل ماضيها الجهادي بحاضرها لمواجهة مشروع التحريف الطائفي، حتى ولو كان ذلك عبر العائلية السياسية.
بل إنّ هذا الغزل الكريه الذي تقوم به قيادات تدعي ريادتها الطائفة مع من ارتكبوا مجازر جسدية وسياسية بحقها وبحق عوائلها العريقة من آل كرامي والحص والخطيب وسلام لهو أمر مؤسف، يحتاج إلى نظر.
نعم... يُخطئ مَنْ يعتقد بأنّ الموالاة تستحوذ بشكل مطلق على الشارع السّني في لبنان وتخيطه من شماله إلى جنوبه. هي تتقاسمه مع مجاميع أخرى تُزاحمها الريادة. التيار السُني غير الرسمي والداعم لخيارات الممانعة ضد مشروعات الأمركة حاضر في الشمال وفي منطقة التل وأبي سمرا وجوارها ومعظم أحياء مدينة المينا وفي أغلب جيوب لبنان.
هذا التيار العريق الذي تواصل مع قضايا لبنان العامّة، متجاوزا جراح حرب المخيمات وصديد الحرب الأهلية حاله كحال التيارات الوطنية والإسلامية الأخرى الشريفة يحتاج اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى دعم وتكثير من قبل المعارضة اللبنانية.
وإذا كانت المعارضة استطاعت أن تُوفّر مليار دولار لإعمار الضاحية الجنوبية، وأنْ تُسند جبهة العونيين، وتُمكّن تيار التوحيد من شراء أراض «جبلية» وتبني القوة المالية للسوري القومي الاجتماعي، فعليها أن تزيد وتضاعف من دعمها للتيار السُنّي التاريخي في لبنان، وإعانته على تكريس حضوره السياسي والمالي والثقافي والإعلامي؛ لأنه جدير بذلك أكثر من غيره.
الأكيد أنّ التيار السُني غير الرسمي في لبنان هو سليل طائفة لا يعنيها كثيرا نسبتها على الخريطة الديموغرافية للبلد (25 في المئة) فهي أكثرية سياسية بفضل عمقها العربي والإسلامي حتى مع «حتمية تبادل الأحجام الانتخابية» لكن المهم هو اصطفاؤه من بين فوضى دينية تحيط به.
حالة «طائفية» أخرى يتوجّب على المعارضة استيعابها بسرعة تتعلّق بطائفة الموحدين الدروز. لأن التجارب القريبة أثبتت أن المُضي في اللعب السياسي مع وليد جنبلاط لم يعد ممكنا في ظل امتهانه الانعطاف السريع حتى مع الحلفاء فضلا عن الخصوم. لذا فقد يكون خيار المعارضة هو تدعيم البدائل المتاحة داخل الطائفة الدرزية وفي طليعتهم الأمير طلال أرسلان.
قد تحتاج المعارضة إدارة ذات اللعبة التي أجادها جنبلاط (الأب) عبر تجسير علاقات أوسع من الداخل نحو الاتحاد السوفياتي واشتراكية فرنسا ودول عدم الانحياز لتكريس حضوره الإقليمي والدولي. وبالتالي تصيير الحزب الديمقراطي اللبناني بزعامة أرسلان إلى تجديد حزبي وسياسي يتجاوز الداخل اللبناني نحو تمالآت خارجية وإن بدت أقل ديناميكية من الحزب الاشتراكي.
وكما حاز جنبلاط الابن أوسمة النصر لحربي الجبل فإن طلال أرسلان يُمكن تكريسه من خلال وصله بتاريخ العائلة الأرسلانية وتحديدا لوالده الأمير مجيد أرسلان الذي تمثّل تاريخه في النضال السياسي ومشيخته خلال فترة الاستقلال، وهو لغاية العام 1975 كان لا يزال صاحب الكاريزما داخل طائفة الدروز الموحّدين.
يمكن للمعارضة أنْ تُصر على توزير أرسلان (الابن) في وزارة المهجّرين بدلا من تُسند إليه وزارة بلا حقيبة أو الاكتفاء بنيابته في المجلس. بالتأكيد فإن هذه الوزارة ستجعل من الرجل محل اهتمام مسيحي أولا، وتاليا ستمكّنه من الاضطلاع على أوضاع الطائفة الدرزية واستقطاب مجاميع إضافية نحو الحزب الديمقراطي اللبناني الذي يتزعمه.
في المحصّلة فإن ما جرى هو جولة. وما سيتبعها سيكون أكثر خطورة ومصيرية؛ لأنه سيحدد مآل الموالاة وأيضا المعارضة، وقد تكون السياسة في مواطن كثيرة أكثر إيلاما من قعقعة السلاح. وعلى المعارضة أن تقرأ ما جرى ثم تُقرر ما هو المطلوب.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2082 - الأحد 18 مايو 2008م الموافق 12 جمادى الأولى 1429هـ