ذهب الناس وذهبنا إلى مهرجان التراث لهذا العام، والذي انطلق تحت شعار «الطيب والعطور التقليدية»، على أمل أن نستنشق عبق التراث والأصالة ونذكي أنوفنا التي انغمرت في نتن الطائفية والإحباط والخيبة السياسية المتفشية في البلاد منذ حين، إلا أننا وبدلا من استنشاق روائح الطيب استنشقنا روائح التراجع والانحسار والذبول والاغتراب في هذا المهرجان التراثي، وهو يشهد أسوأ وضع وحال له منذ أن انطلق في العام 1992، حاملا شعار «الغوص وصيد اللؤلؤ في البحرين»، فبات هذا البخور الذي استنشق حسرة إنما هو بخور جنائزي لا أكثر ولا أقل هو بخور وطيب الوداع!
وبات الواحد منا مصدوما أمام ديكورات وترتيبات لا تمت للتراث بأدنى صلة بل هي تزيد إحساسك بالغربة والانفصامية في بلادك، ونحن لأجل ذلك ندعوهم إلى الاطلاع على تجارب الدول المجاورة للاستفادة منها والتأسي بها ولو على مستوى الديكور فقط، فذلك قد بات أفضل اختزال ممكن بعدما فقدت البحرين ريادتها في كل ميدان ومنها ميادين أصالتها وميادين العلاقة بين إنسانها وبيئتها!
وحتى هذه اللحظة نحن لا نعلم كم هم البحرينيون أصبحوا عميانا وصما وبكما وجهلة بتراثهم وجذورهم وأصالتهم حتى يحتاجوا إلى ضيوف يعلمونهم إياه وإن نطق الضيوف الكرام بهذه المسميات التراثية خطأ، وهو أمر طبيعي ومتوقع في كل حال، ولربما نحن أيضا بحاجة إلى دراسة أخرى لإثبات عمى وصمم وبكم البحرينيين وجهلهم عن التعبير عن تراثهم وأصالتهم!
لقد بدا لي المهرجان ولغيري من الإخوة البحرينيين ولنفر من السياح الذين زاروا المهرجان من دول مجاورة وممن واكبوا الانطلاقة السنوية لهذا المهرجان منذ عامه الأول أنه فقَد الكثير والكثير من حيويته وجاذبيته وحتى شعبيته، وأصبح كما لو أنه ثمرة ناضجة قطع عنها الماء وشح شحا تاما حتى ذبلت وتعفنت، وغدونا بانتظار أن تسقط الثمرة على الأرض ذات يوم، لتزال الشجرة ليس لسبب سوى أنها أصبحت بعدها عقيمة وعقبة في آن واحد!
المهرجان ربما كان أحد أفضل أدوات تعزيز الفعل الاجتماعي للثقافة في البحرين، فلطالما كان يستقطب مئات الآلاف من الزوار سنويا من داخل البحرين وخارجها، ولا أدري إن كان يحتفظ الإخوة المعنيون بإحصاءات مقارنة لعدد زوار المهرجان منذ انطلاقته وحتى سنته الأخيرة، عسى أن نتعرف ويتعرف الجميع إن كان هذا المهرجان لايزال محافظا على حجم نجاحه واستقطابيته وفاعليته المنجزة كما كان العهد به في سنينه الأولى، أم هو دخل هو و «القرية التراثية» مستوى التصفية والضمور بعدما شكلت لنا وللبحرينيين شمعة نوستالاجية لا أدفأ ولا أروق من إنارتها لنا وسط جهامة المدنية الحديثة.
إن مراجعة مثل تلك الإحصاءات المقارنة ودراسة أوضاع المهرجان خلال السنوات الفائتة، ومقارنتها بما وصل إليه حاليا هو أفضل خيار ناجع لتحديد إن كنا مازلنا على «الصراط المستقيم» فيما وعدنا بتحقيقه وإنجازه أم انحرفنا كثيرا وسقطنا جراء ذلك، وهذا هو الحل الأفضل عسى ألا يظل الهدف في النهاية هو إنجاح المهرجان بأية طريقة ولو كان «بالدز»!
وفي الوقت الذي تسنى من خلاله لزوار المهرجان زيارة معرض «الأقنعة... جمال الروح»، فقد انبهروا بالمعروض وأعطوا انطباعا جيدا عن تميز هذه الفعالية وهو ما لا ينكره أي عاقل ومطلع حصيف، إلا أنهم تمنوا لو كان هناك ذات النهوض والعناية والاهتمام بمستوى مهرجان التراث لهذا العام كما كان سابقا في عصوره الذهبية الأولى قبل أن يصيبه الذبول بسبب شح الماء وشح الأشعة الشمسية الدافئة وقد ألقي مكشوفا لعوامل التعرية الطبيعية والإدارية حتى وصل إلى ما هو عليه!
هل كان من اللائق لو قال أحد ما لهؤلاء الزوار المنبهرين والمصدومين إن هذا المهرجان المحتضر بعد سنوات شبابه ويناعته الأولى إنما هو امتداد لمعرض الأقنعة الجميل، بل إن المهرجان يشكل قناعا تراثيا في حد ذاته، أو هو أكبر قناع على الإطلاق، وهذا القناع التراثي المحبط حاليا والمسمى «مهرجان التراث» إنما يكشف في صورته الحالية الجرح التراثي العميق والملهم للأسى والاغتراب، ويرمز إلى الإحباط الوطني العام، ويجلي حجم قناعاتنا المتواضعة، ورقة أحلامنا وآمالنا ليس لسبب إلا لكونها أحلام وآمال جوفاء!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2080 - الجمعة 16 مايو 2008م الموافق 10 جمادى الأولى 1429هـ