العدد 2080 - الجمعة 16 مايو 2008م الموافق 10 جمادى الأولى 1429هـ

العلمانية القلقة: حالة فرنسا إزاء مسلميها

مصباح الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع مصباح الحرية

بقدر ما كانت العلمانية الغربية اكتشافا إيجابيا ومُبدعا، بما أتاحته من فرصٍ سياسية لفك الاشتباك الذي كلف المجتمع الغربي عشرات الحروب، بسبب الصراع على الدمج بين الدولة والاعتقاد الفكري؛ تهدد العلمانية المعاصرة المتحولة إلى دين أو أيديولوجيا بتخريب الوعي السياسي والنضج المجتمعي وتعميق الخلط، تاليا، بين سلطة الدولة ومذهب الفرد وعقائده.

وفي أفق هذا التحول، تتبلور أزمة العلمانية الغربية في أقصى تجلياتها ومفارقاتها. ولعل النموذج العلماني الفرنسي (وهو أحد النماذج العالمية - لا الغربية فحسب - الأكثر تشددا في علمانيته ولائكيته؛ وهنا تحديدا تكمن خصوصيته) من أهم الأمثلة التي تعكس بشكل صارخ معالم هذه الأزمة، والتي تبدو مُجسدة - بكل وضوح - من خلال تعاطي الدولة الفرنسية مع قطاع مهم من قطاعات الشعب الفرنسي، والمقصود طبعا مسلمي هذا البلد بفئاتهم وشرائحهم كافة.

إن مقتضى «الفرادة» التي تُميز النموذج العلماني الفرنسي، كما يقدمه مؤيِّدوه، اعتماد النظام السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا النموذج على تقديس حرية الفرد ومساواته مجردا من انتمائه الديني أو الإثني. ويدور لبُّ المنطق الفرنسي على حشد المواطنة خلف قيم الجمهورية على نحو يعيد ترتيب الفرد وفق نموذج الجمهورية الجماعي.

وواضح أن نموذج فرنسا في مسألة الانصهار الاجتماعي يختلف عن ذلك الأنجلوساكسوني الذي يتأسس على فكرة تعايش المجموعات بالاحتفاظ بخصائصها الإثنية والثقافية والدينية في مقابل احترام الآخر ضمن الوطن الكبير وقواعده.

إن علاقة فرنسا بالإسلام بعيدة الغور في التاريخ وقديمة جدا، ولاشك أنها الأقوى مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، إذا استثنيت حالة إسبانيا المعقدة. وقد تلقت هذه العلاقة دفعة قوية واكتسبت طابعا خاصا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحت تأثير مُقتضيات إعادة الإعمار والتي جعلت فرنسا تُكثِّف من سياسة الاستقدام للعمال الأجانب من المستعمرات، والتي بدأت مع البربر الجزائريين منذ العام 1906؛ فشرعت في استقدام العمال المغاربة، الذين زاد عددهم على المليون في الستينيات.

يتراوح عدد المسلمين في فرنسا حاليا بين خمسة وستة ملايين شخص، وعليه تعتبر فرنسا أكبر دولة أوروبية في تعداد المسلمين، وإذا أخذنا في الاعتبار التقدير الأعلى، فستكون نسبة عددهم نحو عُشْر عدد السكان. وفي العلاقة بين هؤلاء والدولة الفرنسية، ظل الرهان الأساسي هو مدى قدرة الجانبين على التعاطي والتفاعل مع قضية «دمج» المسلمين في المجتمع، ومن ثم «اندماجهم» بصورة سليمة وكاملة يُمكِن أن تشكل نموذجا مشجعا في سائر أنحاء القارة الأوروبية.

ما لا تدركه العلمانية الفرنسية أن النموذج العلماني الفرنسي للاندماج ما فتئ منطويا على إشكالٍ جوهري؛ فهذا النموذج ينطلق من ضرورة كسر التجمعات الإثنية والدينية، ويعطي لها هامشا أقل من التعبير الثقافي المستقل مقارنة بالنموذج الأنجلوساكسوني. فمن الصعب أن نجد في فرنسا كنائس مغلقة على السود أو على الآسيويين فقط، كما لا ينظُر هذا النموذج بعين الارتياح لهؤلاء المسلمين الذين يرتدون أزياءهم التقليدية أثناء ذهابهم إلى المساجد أو أثناء سيرهم في الشوارع، ويعتبر أن التماهي وأحيانا التطابق مع قيم النموذج الفرنسي يكسر - أولا - الانغلاق العرقي، ويعطي - ثانيا - فرصا أكبر لأبناء هذه الجاليات في الترقي داخل السلم الاجتماعي والسياسي بمنحهم فرصا متساوية عن طريق دمجهم في قيم الجمهورية الفرنسية وليس من خلال بقائهم في تجمعات إثنية ودينية مغلقة. ومع أن المؤسسات الرسمية الفرنسية تعلن مرارا وتكرارا أنها تعمل على إنصاف مواطنيها المسلمين، فإنها لم تحقق نجاحات ملحوظة. فعلى سبيل المثال، تصل نسبة البطالة بين المسلمين ذوي الأصول الجزائرية والمغاربية إلى 30 في المئة، بينما هي لدى الفرنسيين عموما لا تزيد على 10 في المئة. ثم إن الوظائف التي تُعرض على هؤلاء أكثرها مؤقت، وليست من الدرجات التي تتفق مع المؤهلات.

ما لا تدركه العلمانية الفرنسية (أو هي تدركه وتحاول أن تتجاهله)، أن الاندماج لا يسعه أن يتحقق من طرف واحد، وأنه ينبغي أن يكون هناك اثنان لإنجاحه. وأنه بالحكمة والسياسات بعيدة المدى وغير التمييزية يمكن التوفيق بين القيم الجمهورية والهوية الإسلامية العصرية، ويبقى خطرا إلى حد كبير ذلك الانطباع عن عنف الإسلام أو عن افتراقه عن قيم الجمهورية الفرنسية.

ويتبقى لنا في الأخير، التأكيد أن العلمانية تعني حماية الدولة من الدين، ولا تعني مطلقا إعطاء الدولة الحق بإلغاء مظاهر الدين (أي دين) أو تهميشها ومحاربتها، وإلا تحولت العلمانية إلى دين جديد يلغي بقية الأديان ويرغم الأفراد على اعتناقه. أي أن فكرة العلمانية - في أرقى صورها - تقوم على خلق مجال عام يحترم حرية الفرد ويرفع عنه صور الإكراه ويحميه من ضغط الانتماء الخاص، أما حين تخلق العلمانية لنفسها سلطة منع الفرد عن التعبير عن ذاته وهويته، فإنها تكون ناقضة لمقاصدها وحقيقتها.

وفي فرنسا، البلد الذي يفتخر بكونه مهد فلسفة الأنوار، يظل جوهر المشكلة - للأسف - قائما: تريد العلمانية الفرنسية استيعاب المسلمين، لكن من دون أن تتغير هي ذاتها، ومن دون أن تراجع أسسها وتبحث عن توازنات جديدة تُوسع من طاقتها الاستيعابية. هل هذا ممكن؟ العلمانية تحمل تاريخها، وهو تاريخ تفاعلها مع تحديات عرضت في مسارٍ تاريخي يمتد أكثر من مئتي عام. غير أنه حيال تحديات جديدة لا يسع العلمانية الفرنسية - وقد باتت أقرب ما تكون إلى عقيدة نقاء وطهر لا تجربة إنسانية تُخطئ وتصيب - أن تطالب بالولاء لها وأن ترفض التفاعل الخلاق مع «الآخر» في الوقت نفسه... وإلى أن تستوعب تماما هذه الحقيقة، ستظل تراوح «أزمتها» وقلقها ولو إلى حين!

* باحث وكاتب يمني، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»

www.misbahalhurriyya.org

إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"

العدد 2080 - الجمعة 16 مايو 2008م الموافق 10 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً