تأكيدا على ما سبق بشأن أهمية إصلاح التعليم والتركيز على المواد التعليمية التي تصب في خدمة الابتكار والإبداع للجيل المقبل، يشار إلى أحدث دراسة للسيناريوهات المحتملة لدول مجلس التعاون الخليجي خلال السنوات العشرين المقبلة، بعنوان «دول مجلس التعاون والعالم: السيناريوهات حتى 2025»، والتي طرحت أثناء المنتدى الاقتصادي العالمي حول الشرق الأوسط (دافوس) الذي عقد في الأردن في العام 2007. في هذه الدراسة طرحت 3 سيناريوهات محتملة للتطورات في منطقة مجلس التعاون الخليجي، تم تسميتها، للدلالة على مضمونها، بسيناريوهات «الواحة» و»العاصفة الرملية»، و»الخليج الخصيب».
ويرى سيناريو «الواحة» أنّ الاستقرار الإقليمي سيظل يشكل تحديا بالنسبة إلى دول مجلس التعاون، ولكنها ستتمكن من تحقيق إصلاحات مؤسسية كبيرة، كما ستطور دول المنطقة علاقات تعاون قوية فيما بينها وستعمل معا لتنسيق السياسات الاقتصادية والدبلوماسية من خلال إدارة حكم تكنوقراطية وسوق داخلية أكثر قوة. أما سيناريو «العاصفة الرملية» فيرى أن حالة عدم الاستقرار في المنطقة هي العامل الرئيسي الذي سيقوّض قدرة دول مجلس التعاون على إجراء الإصلاحات المؤسسية الضرورية بطريقة فعالة. ويرى هذا السيناريو عددا من العوامل المركبة التي تجعل المنطقة المحيطة مضطربة إلى حد كبير، ومنها النزاع الدائر بين الولايات المتحدة وإيران، واتساع دائرة العنف إلى خارج العراق. أما سيناريو «الخليج الخصيب»، وهو المقصود بهذا المقال، فيرى بروز دول المجلس كمراكز للابتكار وتطوير الكوادر البشرية في بيئة عالمية تتسم بالطلب القوي على الطاقة وتنامي العولمة. وسيتيح الاستقرار الإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي الفرصة لتركيز جهودها على تطوير كوادرها البشرية على المستويات كافة، والاستثمار بقوة في التعليم، ومواصلة مسيرة الإصلاح السياسي والمؤسسي بحذر، من أجل دعم مجتمعاتها واقتصادياتها المتنامية.
وكما يمكن استشفافه من هذه السيناريوهات، تبرز قضيتان رئيسيتان على درجة عالية من الأهمية في تأثيرهما على مستقبل دول المجلس ومسار كلّ من الثلاثة السيناريوهات الذي يمكن أنْ تمضي فيه هذه الدول. القضية الأولى هي أسلوب القيادة والحاكمية Leadership and Governance، أما القضية الثانية -موضوع هذا المقال- فهي التعليم والابتكارEducation and Innovation، إذ ترى الدراسة أنه وعلى رغم حجم احتياطي النفط والغاز الطبيعي التي تمتلكه هذه الدول، إلا أنها ستواجه في النهاية تحدّي نضوب هذه الموارد، كما أنّ هذه الموارد ليست من المصادر التي يعوّل عليها بموثوقية دائمة لتحقيق الدخل والثروة لها. وفي محاولتها لتنويع مصادر الدخل لتخفيف تأثيرات تقلب أسعار الطاقة عليها، فإنّ دول المجلس تواجه مشكلة إضافية كبرى تتمثل في التدني العام للمهارات الحالية للقوى العاملة الوطنية فيها مقارنة بالمقاييس العالمية، بالإضافة إلى تدني مستويات البحث والتطوير والابتكار فيها وعدم الاهتمام بهذا الجانب في سياساتها التنموية، ما يعيق عملية التنمية في هذه الدول، ويفاقم من مشكلة استيراد كل من العمالة الأجنبية والتكنولوجيا، ناهيك عن مشكلة البطالة التي سيتعرض لها أبناء المنطقة. ولذلك، فإن الطريقة التي ستتعامل بها دول المجلس في مجال السياسات التعليمية وتجذير البحث العلمي في المجتمع سيكونان محددين رئيسيين لقدرة المنطقة على النمو كاقتصاديات تعتمد على الابتكار ولا تعتمد بشكل كلي على الموارد الطبيعية.
ولذلك، فإن إصلاح التعليم ونوعية مخرجاته في دول المجلس سيكون له الأثر الكبير على مستقبل المنطقة. وتشير الكثير من الدراسات المستقبلية إلى أن الاكتشافات العلمية والابتكارات التقنية ستكون أساسية للتقدم الاقتصادي في القرن الحالي، ولكي يستطيع الخريجون الاندماج والنجاح في هذه الاقتصاديات الحديثة سيكون لزاما عليهم أن يمتلكوا مهارات كثيرة يأتي على قمتها المهارات المتعلقة بالرياضيات والعلوم.
في أحدى الفعاليات العلمية الخليجية تحدث أحد الزملاء من أحدى الجامعات الخليجية بمرارة كبيرة عن أنه في فترة أسبوع واحد، مر خبر حصول وفد طلابي من دولته على المركز الأخير في مسابقة عالمية في الرياضيات والعلوم اشتركت فيها 50 دولة مرور الكرام على المجتمع، بينما قامت الدنيا ولم تقعد عندما لم يتمكن المنتخب الوطني من بلوغ الأدوار المؤهلة لبطولة كأس العالم لكرة القدم، وصولا إلى حد المطالبة برأس رئيس الاتحاد! لذلك، فإنه وإن كان هذا الإنجاز الأخير متواضعا نسبيا مقارنة بمستوى الطموح والمستوى العالمي، إلا أنه حسنا فعلت وزارة التربية بإحاطة الخبر باهتمام إعلامي يعكس اهتمام صناع القرار ووضوح رؤيتهم في هذا الحقل وفخرهم بهذا الإنجاز وللتشجيع على العمل على خطوات أسرع في هذا المجال. فالوزارة تستحق التهنئة والتقدير على الجهد المبذول في هذا المجال، ولتسمح للمهتمين أن يرفعوا سقف توقعاتهم من الالتزام من جانبها باستمرار إصلاح التعليم، والتركيز على هاتين المادتين لكي تمثلا الأساس القوي الذي يبنى عليه الجيل المقبل، حيث أن إصلاح التعليم والتحديث والتطوير للمناهج التعليمية هي عملية ومستمرة وليس مشروع ينتهي بفترة زمنية.
ومثلما تمثل نوعية مخرجات المرحلة التعليمية الأساسية رافدا رئيسا للتعليم الجامعي ومن المتوقع أن تحسن من أدائه ومستواه على المدى الطويل، كذلك يجب أن يطال إصلاح التعليم المرحلة الجامعية وتحديثها وطرح التخصصات العلمية المناسبة والتركيز على البحث العلمي لتصب هذه الاستثمارات والجهود فيما يمكن أن يثمر ويزهر على المدى الأطول، ولكي لا تصل العملية إلى طريق مسدود، ومن المؤمل أن يكون ذلك دعامة أساسية من دعامات إصلاح سوق العمل والاقتصاد في مملكة البحرين عموما
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 2298 - السبت 20 ديسمبر 2008م الموافق 21 ذي الحجة 1429هـ