حينما تدلهم الأمور، عادة ما نلجأ إلى التاريخ، نقلّب صفحاته ونقارن بين أحوالنا وأحوال الغابرين. وفي هذه المرحلة الحالكة السواد، لشدّ ما تذكّرنا «غزة هاشم» بـ «شِعب أبي طالب»... فكلاهما حصارٌ ظالمٌ وجائرٌ وآثم وأثيم.
أحد الزملاء علّق على مقالٍ سابقٍ بأن «من المعروف تاريخيا أن وثيقة مشركي قريش بشأن مقاطعة المسلمين أكلتها دودة الأرضة وليس حمية أحد المشركين، والله العالم». ولكن مراجعة سيرة ابن هشام تؤكد انهيار المقاطعة وتفكّكها من الداخل، إذ كان هشام بن عمرو يأتي بالبعير أوقره طعاما حتى يصل فم الشِعب، فيخلع خطامه ثم يضرب على جنبه فيدخل الشِعب على المحاصرين من بني هاشم. كما يذكر كيف كان قادة قريش يتلاومون فيما بينهم لما لحق بالمحاصَرين من شدةٍ وبلاء، حتى صاح أحدهم أمام الكعبة: «يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنوهاشم هلكى، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة». ثم يكتشفون أن الدودة أكلت وثيقتهم وهم لا يعلمون.
قبل أيام، دعا زعيم المقاومة حسن نصرالله، قيادة مصر إلى وقفةٍ تاريخيةٍ تخلّدها في التاريخ، بفتح الحدود وكسر الحصار عن غزة، ولكن جاء الرد سريعا ومثبطا ومخيّبا للآمال.
مصر في هذه الأيام عليلة، وعلّتها تعدي كل العرب، فلم يحدث أن توعكت كما هي اليوم. حتى في لحظة ذهاب حاكمها السابق إلى تل أبيب، وتوقيعه معاهدة «كامب ديفيد» السيئة الذكر، حاول أن يترك هامشا لحقوق الفلسطينيين في حكم ذاتي صغير. أما في هذه الأيام فقد تجاوزت مصر إرث السادات، لتدافع عن مشاركتها الفعالة في حصار مليون ونصف مليون فلسطيني،عربي، مسلمٍ... إنسان.
مصر بدل الاستجابة لنداء 300 مليون عربي، ومليار و200 مليون مسلم، بفتح المعابر وكسر الحصار، أطلقت حملة مضادة للمنطق والعقل والدين والتاريخ... فهي تحمّل «إسرائيل» المسئولية، لأن القطاع رسميا «تحت الاحتلال»! بل إن المتحدّث باسم الخارجية اتهم منتقدي حكومته بأنهم «مدفوعون بأسباب سياسية»! أما صحيفة «الأهرام» الحكومية فاتهمت «إسرائيل» بأنها تحاول توريط مصر في أزمة غزة، فهي المسئولة قانونيا عن توفير الغذاء والمياه والدواء والوقود لفلسطينيي القطاع، «وهي وحدها مسئولة وليس أحدا آخر»!
هؤلاء يعرفون أن هذا المنطق المتهافت لا يقنع أيّ عربي، في مصر أو المغرب أو الشام أو الخليج. وقد وفّر وزير العمل الفلسطيني على الجمهور العربي الرد حين قال «إنه مما يؤسف له أنه لا يوجد جندي إسرائيلي واحد على الحدود مع مصر». فالحصار اليوم يفرضه بعض قومنا العرب لمصلحةٍ إسرائيليةٍ بحتة، وبدعوى احترام الاتفاقات الدولية «المقدّسة» التي لا تكترث بقداستها «إسرائيل».
الحصار الأول بدأته قريش السنة السابعة للبعثة النبوية، واستمر ست سنين، حتَّى أنفق الرسول (ص) وعمه أبو طالب وزوجه خديجة أموالهم، وانتهوا إلى «حدِّ الضرِّ والفاقة، واشتدت بهم الضائقة، حتى اضطرتهم إلى أكل الأعشاب وورق الأشجار» كما يقول المؤرخون كاليعقوبي، أما عرب القرن الحادي والعشرين، فمنهم من فرح بفرضه لكسر أنوف الفلسطينيين، ومنهم من شارك فيه، ومنهم من سكت عنه، حتى أكل الفلسطينيون الأعشاب وقدموا دقيق الحيوانات خبزا لأطفالهم... إكراما لعيون «إسرائيل»، والتزاما حرفيا ببنود المعاهدات الدولية التي نزلت عليهم من السماء
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2298 - السبت 20 ديسمبر 2008م الموافق 21 ذي الحجة 1429هـ