كأنما أراد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جورج بوش أن يسدل الستار على ما ألحقه باقتصاد بلاده من كوارث بالإعلان عن موافقة الحكومة الأميركية «منح صانعي السيارات الذين يقفون على حافة الانهيار قروضا بقيمة 17 مليار دولار»، مبررا هذه الخطوة بالقول إن «السماح للسوق بأخذ مجراها من دون تدخل سيعني حتما إفلاس الشركات وتصفيتها».
من حق الإدارة الأميركية أن تتدخل لإنقاذ صناعة السيارات؛ فإلى جانب أهميتها المعنوية للصناعة الأميركية، فهي من البؤر الاقتصادية المركزية التي تمد الاقتصاد الأميركي بالحيوية التي يحتاجها للتطور والصمود، فالشركات الثلاث (جنرال موتورز وفورد وكرايسلر) توظف بشكل مباشر نحو ربع مليون شخص إضافة إلى عدد آخر من العاملين بشكل غير مباشر في مجالات المبيعات وصناعة قطع غيار السيارات.
لكن، إذا إفترضنا جدلا أن هذه الجرعة الصغيرة أمدت صناعة السيارات بشيء من الطاقة التي تساعدها على الصمود، المؤقت، في هذه الأزمة، أو بالأحرى منع أوضاعها من تدهور سريع يضاعف من حجم الكارثة ويوقف توسع دائرتها، تبقى هناك مجموعة من القضايا التي ستضع هذه الصناعة أمام ما يشبه الجدار الأصم:
المسألة الأولى، هي الكساد العام الذي قلص قدرة المستهلك الشرائية، في السوق الأميركية والعالمية، ما يؤدي إلى تراجع مبيعات السيارات.
المسألة الثانية، ارتفاع كلفة الإنتاج، والذي سينعكس مباشرة على القدرة التنافسية مع شركات صناعة سيارات أخرى. ومحصلة ذلك انقطاع دورة الإنتاج - البيع - توظيف الأموال في الإنتاج - تحقيق الأرباح المرجوة. وبالتالي ستجد السيارات الأميركية طريقها إلى صالات العرض وتخزينها هناك، بدلا من وصولها إلى يد المستهلك الذي سيبحث، تحت وطأة الأسعار المرتفعة ذاتها، عن بديل آخر سيكون الآسيوي، وخاصة الصيني الأقرب إلى جيبه.
المسألة الثالثة، هي علاقة صناعة السيارات بالصناعات الأخرى، إلكترونية كانت أم تقليدية، فإنقاذ قطاع واحد من القطاعات دون الأخرى، لايعني إطلاقا انتشاله بشكل نهائي من أزمته التي يعاني منها. وليس خافيا على أحد تشعب علاقات صناعة السيارات الأميركية مع الصناعات المكملة الأخرى وتعقيداتها، ما يعني أن الحاجة إلى حل مشكلات الصناعات الأخرى قادمة لاريب.
هذه كله يعني أن هذا القرض بقسمة 17 مليار دولار، لن يعدو كونه جرعة مسكنة لقطاع صناعي واحد، ربما يمكِّن هذه الصناعة من الصمود المؤقت، ويمدها بشيء من الحيوية الظاهرية التي تضع قدرتها على الاستمرار ولفترة طويلة رهنا بعوامل أخرى ليس ذلك القرض سوى نقطة في محيط تلك العوامل.
لكن بعيدا عن نجاح بوش في مشروعه الإنقاذي أو فشله، يبقى هناك تساؤل كبير يضعه العالم أمام الحكومة الأميركية، وليس بوش فحسب الذي باتت أيامه معدودة في البيت الأبيض، ذلك هو أين موقف واشنطن المتشدد، في سياق ترويجها لاتفاقيات التجارة الحرة من الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد؟ لقد دخلت الولايات المتحدة، وخاصة في مرحلة ولايتي بوش في حروب ضارية مع الكثير من دول العالم، بما فيها بعض الحليفات الأوروبيات من أمثال فرنسا وألمانيا من أجل «تقليص دور تدخل الدولة في الاقتصاد»، تمكينا لقوانين الاقتصاد الرأسمالي الحر المتضاربة مع تلك التي تسير الاقتصاد المركزي الذي تسيطر على آلياته مؤسسات الدولة ودوائرها.
على الولايات المتحدة اليوم كي تحتفظ بصدقيتها أمام حلفائها، أن تفسر لهم مثل هذه الخطوة، والتي هي إجراء محدود أمام خطة الإنقاذ الأكبر والأشمل، والتي تتجاوز صناعة السيارات فحسب ومبلغ الـ 17 مليون كي تشمل كل القطاعات وبقيمة تبلغ 700 مليار دولار.
وطالما سمحت «الظروف الاستثنائية» المحيطة بصناعة السيارات الأميركية، على حد قول بوش، للدولة أن تتدخل بشكل مباشر وفي هيئة معونة نقدية، فليس من حق الولايات المتحدة اليوم أن تطالب دولا أخرى مثل مملكة البحرين بأن تعيد النظر في حصة ملكيتها في الشركات التي تمتلك حكومة البحرين نسبة من رأس مالها، لا لشيء سوى خضوعها لقوانين وبنود اتفاقية التجارة الحرة.
اليوم نسمع عن تدخل الدولة الأميركية بشكل علني ومباشر، ومن دون مواربة، في صناعة السيارات، وغدا ربما في صناعة اخرى تماما كما شاهدنا تتابع تدخلها العسكري في أكثر من دولة تحت غطاء واحد يبيح لواشنطن ما لا يبيحه لسواها
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2298 - السبت 20 ديسمبر 2008م الموافق 21 ذي الحجة 1429هـ