هل استفاق العرب من لعبة الأمم ولم يعد أحد قادرا على أنْ يفرض عليهم «أثمانا» سياسية أو عسكرية؟
هل صحيح أنّ العرب بات لديهم استقلالية ومشروع خاص بهم بعيدا عن المشروع الأميركي أو غيره من المشروعات المتعارضة مع أجندتهم الوطنية والقومية؟
الحالمون الجدد «بالنصر» السياسي والخارجون من رحم الأيديولوجيات الشيوعية والحزبية انغمسوا في قاع الأوهام مرة أخرى وباتوا مندهشين من أجواء التغيير القادمة بمنطقة الشرق الاوسط التي ستهب علينا بمشروعات الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان وهي عناوين إصلاحية لا صلة لها بالأميركان بل تبعث من الداخل العربي الذي صحى أخيرا على مواجهة الأصولية الإسلامية (شيعة وسنة) وتوابعها الإرهابية وملحقاتها التكفيرية!
المشهد الدرامي المتقلب منذ العام 2000 وما لحقه من حروب وتغيرات دفعت بالعرب إلى واجهة الحوادث كان من نتائجه:
أوّلا: تحويل هذه البلدان إلى مرتع لحروب ضد الإرهاب دفعت هي نتيجه الثمن وعلى حسابها بدءا من جهاد بن لادن وإلى معظم المحطات التي استنسخت أشباه بن لادن.
ثانيا: قيام حملة ترويج بجعل «إسرائيل» صديقة للعرب ومصالحتها مع «خصومها» وأبعد الجيران عنها وإدخالها كطرف «مسالم ومتحضر» في المنظومة العربية والشرق أوسطية.
ثالثا: خلق أعداء جدد من وزن إيران والشيعة المتطرفين ومن يرفع شعار المقاومة وتحت أية ذريعة كانت.
رابعا: إغراق المنطقة الخليجية صاحبة الثروات بصفقات أسلحة لمواجهة «الأعداء الجدد» لإستنزاف موردها الأوّل والتمهيد لحروب قادمة ونزاعات وعلى حساب شعوب ومستقبل هذه المنطقة.
خامسا: الإمساك بلعبة النفط والدخول المباشر إلى مواقع التصدير والإنتاج وإدارة العملية النفطية وتوجيهها وبما يتلاءم مع متطلبات الوجود العسكري المنتشر في أحزمة الصحاري وأطراف المدن الخليجية والعربية.
الحديث هنا ليس بالأمر السهل والبسيط وفكرة الخروج عن الاستقطاب أو ما يمكن تسميته بالاستقلالية النسبية تحتاج إلى شيء من الاستدلال في معرض المطالعة بأنّ العرب واقعون تحت خيمة «لعبة الأمم» حتى وإنْ لم يتم الاعتراف بها أو إنكارها.
العام 1974 وبعد حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل ولجوء دول الخليج النفطية إلى حظر التصدير للدول التي ساندت «إسرائيل» «لمعاقبتها»، ظهر برنامج تلفزيوني على إحدى المحطات البريطانية مازلت أستحضره بذاكرتي كلما استدعت الظروف، في ذلك البرنامج كان المقدّم يستخدم الميزان في تبيان العلاقة غير المتكافئة بين برميل النفط الذي يستهلكه المواطن الغربي ولم يتجاوز سعره الـ 12 أو 13 دولارا في حينه وبين الصادرات التي يوردها إلى تلك البلدان العربية والخليجية، وقد أجاد اللعب على الميزان وتصوير المعادلة بأن وضع في كفة برميل من النفط وفي الكفة الأخرى صورة عن أدوات ومعدات كهربائية من تلفزيونات وكمبيوترات وإلى ما هنالك من أجهزة مصنعة يستوردها العرب والخليج وبقيت كفة النفط الأكثر رجحانا من الثانية، فما كان من «المخرج» إلا أن جاء بصورة دبابة ووضعها مع الأجهزة الكهربائية ليختل التوازن، مشيرا مقدم البرنامج بإصبعه إلى الصورة قائلا «الآن عادت الأمور إلى نصابها»...! بعد أن مالت الكفة لصالح مستهلك النفط!
السيناريوات مخيفة إذا إستمر المراقب بتتبع مسار الحوادث منذ السبعينات إلى اليوم فقد كانت أسعار النفط العام 2003 تاريخ الدخول العسكري الأميركي للعراق نحو 24 دولارا للبرميل، لكن الحرب قفزت بها إلى أكثر من 100 دولار وهو ما يعني خسائر بالمليارات من موازنات الحكومات المستهلكة للنفط وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما دفع أعضاء بمجلس الشيوخ الأميركي إلى مطالبة إدارة الرئيس جورج بوش الابن على رغم المواجع الاقتصادية لدافعي الضرائب نتيجة إرتفاع كلفة تعبئة الوقود بخزان السيارة بالضغط على الحلفاء بعدم تمرير صفقات الأسلحة إذا لم يتم زيادة الإنتاج من النفط لخفض الاسعار مقابل تسهيل شحن الاسلحة التي قيل أن فاتورتها تتراوح بين 20 و30 مليار دولار تحت عنوان عريض وهو الإبقاء على وجود أميركي أقوى في المنطقة وعمل توازن بين القوى المتصارعة وتعزيز قوى التطرف!
حطوا الدبابة مقابل البرميل، قد تكون هذه السياسة استكمالا لعادة بيع السلاح الأميركي إلى المنطقة خوفا من إختراقها من قبل الروس أو الفرنسيين الذين مازالوا يأخذون حصصهم بحسب أحجامهم وأدوارهم في إطار سياسة «تنوع شراء السلاح» كما جرى العرف عليه بتصريحات المسئولين العسكريين والسياسيين العرب!
بناء الأمم لم يعد هو الشعار ولا هدف بل لعبة الأمم هي الأجدى والسلاح أحد أدواتها والحرب تبقى اللعبة المفضلة على غيرها من أداوت الإعمار والتنمية والاستقرار.
اللعبة لم تنته بعد وقد تكون أحد ضحاياها أن هي كانت كذلك، لكن هناك من لا يرى أملا بالخروج من دوامة هذه اللعبة التي اشتهر بها «مايز كوبلاند» العميل السري للمخابرات الاميركية والذي ذاع صيته ونال شهرة واسعة بكتابه «لعبة الأمم» وإرتبط إسمه بجمال عبدالناصر وحسين الزعيم بعد ما أسس في واشنطن ما سماه «غرفة الألعاب»، وفيها يتم إستعراض المشكلات الدولية الإفتراضية ثم تبعه بكتاب آخر بعنوان «بدون عبادة ولا خنجر» عرض فيه تجربته بالعمل السياسي باعتبار العمل السياسي أشبه ما يكون «بلعبة» أو «ألعاب متداخلة».
لم أكن يوما من أتباع مدرسة «نظرية المؤامرة» فهي أقصر الطرق للتنصل من المسئولية وجلد الذات والبكاء على الأطلال، بل المسألة أن الميزان مازال مختلا وغير متكافىء، وأنّ العرب مازالوا يدفعون «الأثمان» مرة باسم محاربة الشيوعية، وأخرى باسم الحرب الباردة وثالثة باسم مكافحة الإرهاب ورابعة باسم معتدلين ومتطرفين وإرهابيين... والحبل على الجرار...
لعبة شطرنج أم لعبة أمم، لا فرق بينهما طالما أنّ المعطيات على الأرض تقول بخلاف ذلك...
العدد 2078 - الأربعاء 14 مايو 2008م الموافق 08 جمادى الأولى 1429هـ