سيمارس التاريخ قسوته على الذين يدَّعون أنهم لا يعرفون. سيقسوا على المتغافلين، على اللاّ «أدريين». على الذين اكتفوا بماكياجهم، مطلين على شرفة لا تاريخ ولا حاضر ولا مستقبل ولا جغرافية لها.
هذا الكلام ينسحب على القادرين على ضخ دماء جديدة في البلاغة العربية، والنص العربي، والمشهد العربي، والحراك العربي، والرفض العربي، وحتى القبول العادل والمشرِّف والداعم لمسيرة العرب.
من القصيدة الواعية لشروط اللحظة، إلى القصيدة الذاهبة في غور الزمن والمستقبل. من التعليق السياسي القارئ والمتنبئ بالثغرات والانكشافات، إلى التعليق الذي يرمي بإفادته تنبيها لمنزلق وشرك ما.
لا أحد بمنأى عن المساءلة. من العاطل في مقهى، واستمرأ تلك العطالة، فيما هو قادر على الفعل وما بعد الفعل، إلى المصابين بداء اليأس في المقاهي السياسية، وحتى مقاهي «البغاء» و «الغباء» التي قادتهم إلى الانحياز إلى عطْل رأوا ضرورته. إذ ثمة من يرى ضرورة قصوى لمثل تلك العطالة والبطالة، في ظل تجميد لا يقتصر على الحجر والمدر، بل يطول الإنسان.
فقط، راقبوا الخريطة. الخريطة التي يراد لها أن تتحوَّل إلى «كعكة» عرس مفترض، يحق لأي متطفِّل على المكان والزمان، عدا «المعازيم» أن يحدِّد حصته منها. وليس بالضرورة أن تكون القسمة عادلة. إذ أكبر الظن أنها قسمة «ضيزى».
لا أعني بالخريطة حدودا، ونقاط تفتيش، وإبراز جواز سفر أو هويَّة أو وثيقة. كل ذلك تحصيل حاصل. أعني تلك الإهانة المقيمة، والمجنَّدة لها جيوش للإمعان في تعميقها. تعميق إهانة المقيمين قبل العابرين في هذا الزمن الموبوء. تعميق إهانة أبناء السبيل، والذين من دون وثائق تدل على انتمائهم إلى هذا الكوكب اللعين. اللعين بامتياز!
فقط، أخاف أن نكون مرتهنين للتاريخ. وأي تاريخ؟ تاريخ ليس بالضرورة أن نكون طرفا في صوغه بعدل وإحسان وشيء مما تبقى من ندى الضمير. تاريخ يحدد ملامحه وشروطه ويصوغه رجل خرج للتو من خمَّارة أو غرفة استجواب أنستْه نوعه: ذكرا أم أنثى!ّ تاريخ ينشغل بأسوار الكبار، وينسى الأسوار التي تكتظ بها أمة من الأحرار والكبار. تاريخ ينشغل بنوع البلاط وزوايا اللهو، فيما الأرض تكاد تكون قاعا صفصفا. التاريخ الذي يذكر فقط لأن القوَّة مفعَّلة على الأرض، والجبروت يتحكّّم بكل ذرة هواء عابرة أو مقيمة، فيما ينسى كبار الإرادة والشرف والعلم في ذروته. فقط لأنه لا يريد أن يتذكر.
لا أخشى على نفسي من مستقبل لم يتضح بعد. ولا أخشى على نفسي من حاضر مازلت فيه حيَّا، مادمت أشاكس جهاته، وأشكك في المتوهم من ثباته. فقط أخشى من استدعاءات لا تكف عن التحشيد والتكالب لتاريخ لا يسرُّ أحدا. تاريخ يحاول أن يختصرني. يختصركَ. يختصرُكِ. يختصركم. يختصركن في نص. نص لا أحد مسئول عن صوغه وتفاصيله. نص يريد قول ما لم أقله، ما لم تقله، ما لم تفكري في قوله. نص يريد اختزال كل هذا الحراك فيما يريد قوله صاحب القوة والمال والجبروت.
بهكذا تخوُّف، يبدو التاريخ «شبحا ماثلا». شبحا وظيفته إطفاء كل متجسد وماثل. مواراة وتعتيم كل مقيم له في الفعل الذروة من الأثر، والعميق من التأثير. شبحا وظيفته تعطيل المتحرك. وتحريك العاطل، ضمن شروط تخدم السياقات التي يرتضيها وينتخبها ويصر على مثولها وحضورها.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 2077 - الثلثاء 13 مايو 2008م الموافق 07 جمادى الأولى 1429هـ