وأخيرا حمل اللبنانيون السلاح... ولكن لا ليقاتلوا عدوا مشتركا ولكن ليقتتلوا فيما بينهم... وسالت الدماء، وامتلأت النفوس حقدا، وكل طرف أصبح يوجه سهامه إلى الطرف الآخر... وكل يدعي وصلا بليلى وأن الحق معه ولا شيء سوى ذلك!
واجتمع وزراء الخارجية العرب... فماذا قالوا وماذا فعلوا؟ واجتمع قبلهم الزعماء العرب في دمشق في قمتهم الأخيرة وكان لبنان من أهم موضوعاتهم ولكن انتهى اجتماعهم وبقيت أوضاع لبنان كما كانت بل زادت سوءا!
أما السيد عمرو موسى فلم يدخر جهدا إلا قام به، وأصبح يخرج من لبنان ليعود إليه ثانية، يتحدث مع هذا وذاك، ولكن أحاديثه معهم ذهبت أدراج الرياح.
وعاد السيد عمرو إلى «جامعته العربية» مسرعا من واشنطن عندما حدثت الأزمة الأخيرة، لعل وعسى، ولكن عودته - فيما أعتقد - لم تكن بأحسن من سابقاتها.
ماذا يحدث في لبنان ولم كل ذلك، وما المخرج من كل ذلك؟ ومتى؟
لبُّ المشكلة - فيما أعتقد - أن كل طرف لا يثق أبدا بالطرف الآخر على الإطلاق، فحزب الله لا يثق بالحكومة التي تمثل الغالبية وخصوصا أنه يعتقد أن هذه الحكومة خذلته في حربه مع «إسرائيل»، وفي الوقت نفسه لا تثق الحكومة بحزب الله وترى أنه مرتبط بسورية وإيران، وسورية - في رأيهم - متهمة باحتلال لبنان وإفساده وتدمير جميع مؤسساته، كما تعتقد أيضا بأن إيران تمد حزب الله بالسلاح الذي يستخدمه ضد اللبنانيين كما حصل أخيرا.
هذه النظرة التي يحملها كل طرف إلى الآخر تجعل التقارب بينهما أشبه بالمستحيل، كما تجعل الاقتتال بينهما متوقعا في أية لحظة.
ومما يزيد الأمر تعقيدا أن جميع الطوائف اللبنانية داخلة في هذا الصراع، فالسنة منقسمون بين الموالاة والمعارضة، ومثلهم النصارى والدروز وهكذا يصبح الصراع الطائفي على أشده عند حدوث أي صراع بين طائفة وأخرى.
وقد بدا هذا الأمر واضحا عندما رأينا ومنذ بداية الاقتتال الأخير كيف أن مفتي لبنان وقف - وبقوة - إلى جانب الأكثرية حاملا بشدة على حزب الله ومن معه، بينما وقف «عمر كرامي» - وبقوة أيضا - إلى جانب المعارضة مبررا كل ما فعلته المعارضة، معتبرا أن دفاعه مشروع عن النفس، كما فعل الشيء نفسه مسئول الجماعة الإسلامية في لبنان الشيخ فتحي يكن.
والدروز أيضا منقسمون، فجنبلاط ليس وحده مع الحكومة الشرعية فهناك قوى درزية لا تقل أهمية عنه ولاؤها للمعارضة، وقد رأينا كيف أن وليد جنبلاط سلّم كل الحبل للجيش متبعا نصيحة الأمير أرسلان، وكيف أن بعض القوى الدرزية الأخرى انتقدت بشدة تصريحات وليد جنبلاط عن حزب الله وما يقوم به في لبنان.
في هذا الخضم العجيب من الاختلافات تأتي التدخلات الأجنبية في لبنان وعلى رأس هذه التدخلات ما تقوم به أميركا و «إسرائيل» في لبنان.
أميركا تبحث عن مصالحها في أي مكان - ولها الحق في ذلك - ومثلها تفعل «إسرائيل» وهما في كثير من الأحوال ينسقان بين مصالحهما وذلك حينما تجتمع هذه المصالح.
أميركا تؤجج كل الاختلافات لتخرج المستفيدة من كل الاقتتال الذي يحصل بين المواطنين في البلد الواحد، لأن هذا الاقتتال يضعف الجميع ويبقي أميركا وحليفتها «إسرائيل» في مركز القوة دائما.
رأينا هذا في العراق، فأميركا وقفت مع الشيعة ضد السنة، لأن مصلحتها كانت وراء هذا الفعل، ولكنها في لبنان وقفت مع السنة ضد الشيعة، لأن مصلحتها - أيضا - كانت مع السنة في هذه المنطقة.
وفي فلسطين عملت أميركا كل ما تستطيعه للإيقاع بين الفلسطينيين، ووقفت مع حكومة عباس ضد حماس، ولم يكن هذا الوقوف حبا في عباس ولكنه الرغبة في إضعاف الجميع لتكون «إسرائيل» في النهاية هي القوة التي تستطيع إخضاع الجميع.
من مصلحة «إسرائيل» إضعاف حزب الله، لأنه يمثل المقاومة في لبنان وقد استطاع كسر كبريائها، ولهذا فإن إضعافه هدف استراتيجي يجب تنفيذه من وجهة نظر «إسرائيل» وأميركا وليس أحسن لتحقيق هذا الهدف من الاقتتال الداخلي بين الطوائف اللبنانية الذي سيحقق الهدف، إن وقع.
القضاء على كل أشكال المقاومة سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان هدف استراتيجي لكل من «إسرائيل» وأميركا ولهذا فإن إذكاء الفتنة بين كل الطوائف والأحزاب يكون على قمة أولويات هاتين الدولتين.
ولا ننسى مصالح الدول الأخرى، عربية وغير عربية وكل هذه الدول تقدم المساعدة لهذا الطرف أو ذاك، والنتيجة مزيد من الخراب والدمار والاقتتال يكون بين كل الطوائف والأحزاب.
في ظل هذه الظروف التي يصعب تكرارها في غير لبنان، كيف يكون المخرج من هذا المأزق الذي إن استمر سيقضي على الأخضر واليابس ولن يسلم منه أحد؟!
أعتقد أن تفهم كل الطوائف أنه لا يمكن لطائفة أن تحكم بقية الطوائف أمر لابد منه وهو بداية الطريق الصحيح.
كما أعتقد أن جعل مصلحة لبنان فوق مصلحة الطائفة أو الشخص أو المصالح الذاتية أمر في غاية الأهمية، لأن لبنان يجب أن يكون للجميع كما أن تركيبته السكانية لا تصلح لغير ذلك مهما حاول البعض تغيير هذه التركيبة وتبعاتها.
الاقتتال ليس حلا، بل هو بداية للتمزق الذي سيقضي على الجميع. على حزب الله والقوى الأخرى أن يزيلوا كل مظاهر التسلح وإغلاق الطرق والمطار، وعلى هذه القوى - كلها - أن تعود إلى الحوار الجاد مغلبين مصالح وطنهم على مصالحهم وألا يتركوا للقوى الأجنبية أن تتدخل في شئونهم ولن يحصل هذا من دون توقفهم عن الصراع بكل أشكاله.
مشكلة لبنان معقدة بكل المقاييس، ولكنها لا تستحيل على الحل، ولعلي أردد قوله تعالى: «ليس لها من دون الله كاشفة» (النجم: 58).
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 2076 - الإثنين 12 مايو 2008م الموافق 06 جمادى الأولى 1429هـ