الرئيس السابق محمّد خاتمي يُحسن الكتابة لكنه يَتِيْهُ عندما يلهْج. وهو قادر على طرح أفكاره ورؤاه لكنه لا يستطيع أنْ يحشرها بذكاء في مكامن التأثير المطلوب. ومن له دراية جيّدة بالسيد خاتمي وبعهده فإنه بالتأكيد سيلحظ ذلك من دون عناء.
الرجل اعتاد على تصحيح أقواله وتصريحاته في عدّة مواطن ، منذ أن أقنعه الشيخ الكروبي بضرورة ترشّحه للانتخابات الرئاسية السابعة في مايو/ أيار من العام 1997 وانتهاء بما قاله قبل أسبوعين في إقليم جيلان الشمالي بشأن مفهوم الإمام الخميني لتصدير الثورة والذي أسال حبرا وفيرا داخل الساحة السياسية الإيرانية.
خاتمي قبل أنْ يُصحّح حديثه قال: «ما الذي قصده الإمام (الخميني) بتصدير الثورة؟ هل نحمل السلاح ونتسبب في انفجارات في بلدان أخرى؟ هل نشكّل مجموعات للقيام بعمليات تخريب في بلدان أخرى؟ إنّ ذلك يعتبر خيانة للإسلام والثورة».
ثم قال بعد أن صحّح حديثه «إنّ سماحة القائد يسير على النهْج نفسه الذي رسمه الإمام الخميني، وسياسة الجمهورية الإسلامية تقوم على أساس إرساء الأمن في ربوع العراق وأفغانستان والعالم برمته وتنبذ التدخل في شئون الآخرين، وإنني قلْتُ سابقا وأكرّر الآنَ أن أكبر مهمة تقع على عاتقنا هي بناء بلد يحترم آراء الشعب؛ ليكون قدوة وإنموذجا يحتذي به الآخرون، وهذا ما كان يقصده الإمام الراحل من تصدير الثورة».
لا أدري لماذا أعاد السيد خاتمي تقديم نقده بشأن مفهوم تصدير الثورة بشكل «أليق» لكنني أعتقد بأنّ التدقيق في خطابات الرجل منذ أن كان في الرئاسة تُعبّر عن حالة أشبه ما تكون بمنهج «الإخلاء الإرادي» للمسئولية، وبالتالي فإنّ مسئوليته اليوم ليس تصحيح قول هنا أو هناك بقدر معالجته للمنهج الذي يتّبعه برمّته.
خلال لقاء أجريته معه ونُشِرَ في صحيفة «الوسط» بتاريخ 06 إبريل/ نيسان من العام 2006 قال خاتمي عن إمكانية رجوعه إلى الترشّح لرئاسة الجمهورية «لديّ تجربة عُمرها ثماني سنوات في الإدارة العليا، الأمر الذي يجعلني أعي جيّدا ما هي المشكلات التي تُعاني منها البلاد، وإذا ما شعرتُ في يوم من الأيام أنّ حاجات المجتمع تتطلب منّي العودة فلن أتردد في ذلك».
وبعد هذا التصريح وحين بدأت الاصطفافات السياسية داخل المسطرة الإصلاحية بعد انتخابات الرئاسة التاسعة التي فاز فيها الرئيس أحمدي نجاد وبالتحديد بعد انقضاء عامها الأوّل رفض الرئيس خاتمي ترشيحات البعض له ليكون «جبهة متقدمة» للتيار خلال المرحلة المقبلة؛ لأنه لا ينوي ذلك مُطلقا.
لكنني أتفاجأ مرة أخرى وكغيري من المراقبين عندما أراه يمخر في ذلك الممر الذي بدأ يُفضي إلى تفاهمات تمهيدية بين كل من الشيخ الرفسنجاني والشيخ الكروبي لإقامة تحالف مُوسّع يضم كثيرا من قوى مبدئية (محافظة) وأخرى إصلاحية معتدلة من حزب اعتماد ملّي وروحانيون مبارز.
ثم أراه ينقض ذلك ويفاجئ الصحافيين خلال إدلائه بصوته في الانتخابات النيابية الأخيرة (الثامنة) بأنه اعتزل العمل السياسي ابتداء من هذه اللحظة، وبالتالي فلا مجال للحديث عن نيّته للترشّح في الانتخابات الرئاسية التاسعة التي ستُجرى في مايو/ أيار من العام 2009!
وعلى رغم حديثه الأخير عن اعتزاله السياسة أعاد خاتمي تأكيد حضوره داخل الخريطة السياسية الإيرانية بتصريحه الأخير والمثير للجدل بشأن مفهوم تصدير الثورة، وما شهده ذلك التصريح من ردات فعل مباشرة ليس آخرها اعتزام 77 نائبا في البرلمان رفع دعوة قضائية ضده بشأن تلك التصريحات «غير الوطنية» بحسب تعبير صحيفة كيهان؛ لأنها تؤكّد الاتهامات التي تطلقها الولايات المتحدة ضد طهران.
وهي على ما يبدو ليست سوى فصل واحد من فصول «العهد الخاتمي» المتناقض داخل السياسة الإيرانية الداخلية. وربما أستحضر اليوم ما كتبته في السادس عشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2003 وأيضا ما كتبته في التاسع والعشرين من شهر مارس/ آذار من العام 2004 عن القراءات الشخصية «النقدية» لعهد الرئيس محمد خاتمي.
فمن خلال المتابعة الحثيثة لمشوار خطابه الإعلامي اعتاد خاتمي إلباس خصومه عباءة الفشل الذي وقعت فيه حكومته الأولى (1997 - 2001). بل الأكثر من ذلك، فقد كان خاتمي وخلال تلك الفترة من رئاسة حكومته الأولى يقوم بدور المُحرّض على الكثير من مؤسسات الدولة التي يُسيطر عليها المبدئيون.
فعندما تنتكس بعض المشروعات التي كانت تضطلع بها حكومته يقوم بتحميل البرلمان الذي كان في دورته الخامسة مُسيطر عليه من قِبل المبدئيين (1996 - 2000) لكن الغريب أنّ سبعين في المئة من القوانين المختلف عليها بين حكومة خاتمي الأولى والبرلمان كان مجمّع تشخيص مصلحة النظام (الذي كان يتصدى بحسب الدستور لحسم ذلك الخلاف بين السلطتين) ينتصر فيها إلى الحكومة!.
بل وصل الأمر لأنْ يُصرّح في أحد مؤتمراته الصحافية في العام 1999 بأنّ «الرئيس لا يستطيع وقف انتهاك الدستور ولا العمل على تطبيقه، وأنّ سلطاته الرئاسية محدودة جدا، وأنه وبعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على تقلده الرئاسة بتّ أدرك بأنّ رئيس الدولة لا يملك الصلاحيات الكافية لإنجاز عمله كما ينبغي»!.
وهنا أتساءل: هل إنّ وضعية إيران الداخلية والخارجية قبل وصوله هي ذاتها التي أصبحت عليه البلاد بعد مجيئه؟! وإذا كان الرئيس خاتمي ينتقد صلاحيات رئيس الجمهورية فلماذا وقع التحوّل الكبير في وضعية إيران في الداخل والخارج بعد وصول الرئيس محمود أحمدي نجاد الذي قلب المعادلة رأسا على عقب؟! وهو ذات الإشكال الذي كان يُردّده فريد زكريا في مجلة نيوزويك الأميركية.
بل الأكثر وفي سياق التناقض الخاتمي غير المنتهي، بأنه وبعد سبع سنوات من حديثه الممتد حول عهده وأداء حكومته وصلاحياته قال خاتمي في اللقاء الذي أجريته معه بأنه يُقرّ بأن تشخيص الأولويات والبرامج وتقدّم الإصلاحات قد أصيب فيها ببعض الفشل، وكان يُمكن فعلا الاستفادة واستثمار الفرص بشكل أفضل!
ضمن هذه النقطة أصِل البداية بالنهاية لإزالة ما تبقى من غموض بشأن تصريحات السيد خاتمي، فهي إن لم تُصحّح فإنها تجري مجرى منوال الرجل في التناقض، وهي إن صُحّحت (وهو ما حصل فعلا) فقد كفى الله المسلمين شرّ القتال.
لكن المهم من كل ذلك هو ما أراه يُحتمّ عليّ إجراء مقاربة مُركّزة بين عهدي الرئيس محمد خاتمي والرئيس أحمدي نجاد والتي يُمكن أنْ يُفرد لها مقال خاص.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2075 - الأحد 11 مايو 2008م الموافق 05 جمادى الأولى 1429هـ