أول كتاب قرأته عن المسألة اللبنانية كان للكاتب اللبناني فتحي يكن، وذلك في أول دراستي الجامعية، في العام 1978.
في ذلك الزمان، كان القارئ العربي يقرأ ما تنتجه بيروت والقاهرة ودمشق من دون أن يسأل عن مذهب الكاتب أو طائفته، منفتحا على مختلف التيارات. أما الآن، فأول ما يسأل عنه: هل الكاتب سني أو شيعي؟! ولم يعد تقييم المواقف بأن تكون قومية أو إسلامية أو وطنية، وإنما أن تكون طائفية، وإلا فأنت خارج سياق العصر!
ميزة الداعية الإسلامي الكبير فتحي يكن، أن بوصلته لم تنحرف في هذا البحر الهائج. ففي عصر الاصطفافات الطائفية أصبح مستنكرا الوقوف مع المقاومة التي رفعت هامة الوطن، وألحقت خلال ستة أعوام الهزيمة مرتين بجيش «إسرائيل»، الذي ألحق بالعالم العربي أربع هزائم خلال ستين عاما.
ما جرى في لبنان لا يسر صديقا، وهذا ما كان يخشاه المهتمون بالشأن العربي والإسلامي العام، من أن تستدرج المقاومة إلى زواريب بيروت، على أيدي أقزام السياسة وأمراء الحرب والمخابرات. وأخطر ما في الأمر إلباس الخلافات السياسية بعدا طائفيا، واحتساب الصراع السياسي بين الفرقاء على أنه خلاف مذهبي بين السنة والشيعة، فهذا ما تطمح إليه الولايات المتحدة الأميركية و «إسرائيل».
في مثل هذه الظروف المدلهمة، تظهر معادن الرجال، وأصحاب المبادئ، الذين لم تنحرف بوصلتهم عن تعيين الاتجاه. وشخصٌ مثل فتحي يكن، هو فوق تهمة البيع والشراء. فهو رجلٌ عقائدي، من وجوه تنظيم الإخوان المسلمين الدولي (فرع لبنان)، وكل من قرأ كتبه الفكرية يدرك مدى تأثره بفكر سيد قطب وأبوالأعلى المودودي رحمهما الله.
علميا، الرجل يحمل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية واللغة العربية، وله مؤلفاتٌ بالعشرات، ترجم أكثرها إلى اللغات الأخرى. وربما يساعدك على فهم مواقفه في الحياة، أن تعرف غلبة ثلاث كلمات على غالبية عناوين كتبه: «الاسلام، الدعوة، الحركة».
ثم إن فتحي يكن رجلٌ حركيٌ، حمل هموم الدعوة منذ الخمسينيات، وتولى أمانة «الجماعة الإسلامية»، وخاض غمار السياسة في بلاده، وترشح نائبا في البرلمان العام 1992. وهو يحظى عموما بالاحترام في الوسط الإسلامي والسياسي بلبنان، حتى وقع الانشقاق السياسي الكبير وتفرق اللبنانيون بين المعارضة والموالاة، وكان موقفه واضحا إلى جانب المقاومة والممانعة والشرف والإباء.
هذا الموقف الوطني، سيحفظ تاريخ السنُّة في لبنان من التشويه الذي سببه صبيان السياسة. هذا التاريخ العروبي الإسلامي الناصع لسنة لبنان، أراد تجار السوق ولصوص المعابد أن يصرفوه عملة رخيصة في سوق السياسة الطائفية.
يكن الآن في الخامسة والسبعين، أطال الله في عمره، فهو لا يطمح إلى منصب رئيس وزراء ولا نائب في برلمان، ولكنه وضع قبَّانا لمعرفة خفايا السياسة اللبنانية: «لقد باعوا عمقهم العربي والإسلامي، واستبدلوه بالعمق الإسرائيلي والأميركي». وتحدث عن فريق السلطة قائلا: «لقد قاموا بإلغاء كل الزعامات السنية، ووظفوا المرجعيات السنية لمصلحتهم هم وليس لمصلحة لبنان أو المسلمين أو أهل السنة والجماعة». واعتبر المقاومة وساما على صدر لبنان، وطالب بانخراط كل اللبنانيين في صفوفها، «لتكون بحجم لبنان بكل طوائفه، ولا تقتصر على مذهب أو طائفة واحدة».
إنه صوت حر يبعث الأمل بأن الأمة لن تنتحر أو تموت.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2075 - الأحد 11 مايو 2008م الموافق 05 جمادى الأولى 1429هـ