في رد كان متوقعا على قرارات حكومة السنيورة بفك ما صار يعرف بـ «شبكة اتصالات» المقاومة وإقالة العميد شقير من موقعه لرئاسة أمن مطار بيروت الدولي طلب الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله ممن وصفها بـ «العصابة التي يقودها السيد جنبلاط...» بالتراجع عن القرارات «المجرمة»، وإلا فإن المقاومة «ستقطع اليد التي تمتد نحو هذه الشبكة أيا كانت باعتبار أن هذه الشبكة تعني منظومة القيادة والسيطرة...». وفي حال رفضت الحكومة المتنازع على شرعيتها أصلا فإن حزب الله سيعتبر «أن إعلانا للحرب على المقاومة قد بدأ من نوع حرب يوليو/ تموز الإسرائيلية الأميركية بايد داخلية ستجعل خيارات الدفاع عن النفس مفتوحة... على مرحلة جديدة تماما... وقد أعذر من أنذر»!
العارفون بخبايا النزاع السياسي الداخلي اللبناني يعرفون تماما أن المشكلة الأساسية تكمن في الموقف من القرار الدولي رقم 1459 القاضي بنزع سلاح المقاومة بشكل أساسي, وهو القرار الذي حاولت كل من أميركا و «إسرائيل» تطبيقه بالقوة أو بالتحايل مرات ولم تنجحا إلى أن جاءت (حرب تموز) العام 2006 وما تبعها من تقرير فينوغراد الشهير وتوصيته الأساسية التي طالبت صراحة بتفكيك منظومة القيادة والسيطرة وشبكة الاتصالات التي استطاعت أن تهزم «إسرائيل» رغم تفوقها الهائل في النار جوا وبحرا وبرا!
كما أنه لم يعد سرا بأن أعداء لبنان وبعد أن فشلوا بوسائل «المعالجة» الخارجية لتحقيق الهدف الآنف الذكر لم يبق أمامهم سوى اللجوء إلى وسائل المعالجة الداخلية القديمة المعروفة والمجربة لديهم ألا وهي الحرب الأهلية, تماما كما فعلوا مع سلاح المقاومة الفلسطينية في أواسط السبعينات!
يومها وبعد أن فشلوا في اخضاع الفدائي الفلسطيني وقيادته المقاومة, خططوا بعناية لاستنزاف سلاحه في الداخل اللبناني عبر شق صفوفه وصفوف حليفه اللبناني لإحراجه ومن ثم إخراج بندقيته وقيادته من ساحة المواجهة مع «إسرائيل» وكانت الحرب القذرة التي نحر فيها الشعبان الفلسطيني واللبناني لمدة تزيد على 15 عاما والتي سميت بالحرب الأهلية!
اليوم وبعد مضي نحو عقدين من الزمن على انقشاع تلك الغمة وتحرر اللبنانيين من كابوس الاقتتال والاحتراب الداخلي لصالح الأجنبي ثمة من يحاول تكرار الفتنة القذرة بوسائل وأدوات وحيثيات جديدة ولكن هذه المرة ضد سلاح المقاومة اللبنانية والفدائي اللبناني الذي رفع رأس العرب والمسلمين!
وكما وصف الفنان اللبناني الكبير مارسيل خليفة أجواء تلك الفتنة القذرة يومها بالقول: «في الأفق عصافير معادية... في الأفق غيوم سود... في الأفق دم ورعود....» وذلك في مقطع لقصيدة معبرة لخص فيها رواية اندلاع الفتنة في بلاده في حينها وكيف أنها منعت الطفل من إطلاق فراشته في الفضاء الرحب ومن ثم قتلته...!
وكما شرح في مقطع آخر من قصيدة ثانية من مجموعة الأناشيد البليغة والمعبرة عن تلك المرحلة، يشيرالفنان الكبير إلى نقطة أخرى لا تقل بلاغة عن سابقتها وذلك بالقول: «كانت اولا بيروت واقفة إلى الفقراء... ثم اتوا إليها من وراء المال والألقاب... وابتدأ الرصاص... وقسموك ولم توافق... وانتزعتك من بنادقهم....» إلى آخر القصيدة الرائعة!
فإن أي مراقب ومتتبع اليوم لما يجري لبيروت ومن حولها مجددا, بل وكذلك لما يجري لأكثر من عاصمة عربية باتت مبتلاة بما ابتليت به بيروت في السبعينات, يستطيع أن يردد بكل حزن مع الفنان مارسيل خليفة تلك القصائد الخالدة ويستحضر بالتالي مجموعة العصافير المعادية والطيور السوداء والدم والرعود التي تحدث عنها في حينه والتي باتت اليوم تحيط بنا من كل جانب في كل أنحاء وطننا العربي الكبير بل وامتنا الإسلامية في أوسع نطاقها!
إن أصحاب المال والألقاب وتجار الحروب وناهبي ثروات الأمة من اللصوص والقتلة باتوا اليوم داخل الهيكل ويريدون إسقاطه من الداخل على الجميع، ولم يعد مخطط الفتنة التقليدي ولا النهب «المعتاد» يكفيهم للوصول إلى مآربهم وغاياتهم وجشعهم اللامحدود!
وإلا ما معنى أن يصطف بعض «ثوار» الأمس من شيوعيين ويساريين وقوميين بل وحتى «إسلاميين» أحيانا إلى جانب «لصوص الهيكل» الإسرائيليين في إعلان الحرب المفتوحة على رجال المقاومة من جنوب لبنان إلى جنوب العراق وأحياء بغداد الفقيرة والمعدمة إلى غزة هاشم وعلى امتداد فلسطين من النهر إلى البحر ومن رأس الناقورة إلى بئر السبع ورفح, بل و «يجتهدون» في «حلية» إهراق دم الأبرياء بعد تجويعهم وحصارهم؟!
ألا يحصل كل ذلك في إطار حربهم المفتوحة ضد خصومهم السياسيين من أجل التمسك بالألقاب والاحتفاظ بالمواقع والتمتع بالجاه والسلطان بأي ثمن كان حتى لو كان ضياع الوطن والإنسان وليس فقط تقسيمه وتفتيته على أساس المذهب والطائفة وتقاسم حصص النهب «الخليوي» و الثابت من المال الحرام؟!
الم يصل المقام بأحدهم ممن أتوا إلى بلدهم على ظهر «المال والألقاب» بالإفتئات على أبناء مدينته من المدنيين الأبرياء بأنهم يرضون بالقتل الجماعي إذا كان ذلك هو ثمن القضاء على «الإرهابيين»؟!
ألا يذكرنا هذا الكلام بما كان يردده صاحب الحرب المفتوحة على شعبه وعلى جيرانه في حروبه العبثية بقوله إنه مستعد للقتال حتى آخر مواطن وترديده الكلام الشهير بأنه لن يسلم البلد إلا خاليا من سكانه؟!
أو أن يذهب البعض الآخر إلى مقولة «حرق الأخضر واليابس» ونعت كل من يفكر بـ «التسوية» مع الخصم السياسي الداخلي بأنه مجنون وخائن إلى أن وصل به المقام اليوم أن يقبل بدور «مخبر» لا لهدف الا من أجل الدفاع عن «المال والألقاب»؟!
إنها حالة دراماتيكية تجعلني استحضر هنا حديثا شريفا للإمام الحسين بن علي عليهما السلام قمة في البلاغة والتعبير حيث يقول:
«الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درت مصالحهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون»!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 2074 - السبت 10 مايو 2008م الموافق 04 جمادى الأولى 1429هـ