رغم كل النار والدخان اللذين يلفان سماء بيروت العروبة، ورغم كل ضجيج الإعلام العربي والأميركي والإسرائيلي، فإن مشهدين كانا يحزّان في النفس، صورة المفتي رشيد قباني وهو يلقي خطابه يوم الأربعاء، وصورة حسن نصر الله في مؤتمره الصحافي يوم الخميس.
قباني ونصر الله، شخصيتان إسلاميتان عربيتان كبيرتان، الأول قائمٌ على دار الإفتاء، والآخر مرابطٌ على أحد ثغور الجهاد والمقاومة أمام مشروع الهيمنة الأميركية.
بداية يجب القول إن ما يجري في لبنان، ليس صراعا طائفيا بل هو صراعٌ سياسي بين قوى انقطع بينها حبل الحوار، بدليل أن لمختلف الطوائف ممثليها في المعارضة والموالاة. ورغم ما للصراع من امتدادات خارجية إقليمية ودولية، فإنه يظلّ صراعا بين تيارات وخيارات وقناعات سياسية متصادمة.
الجمهور العربي الذي ظلّ مشدودا من طنجة إلى مسقط وما بعد مسقط، إلى نشرات الأخبار أثناء حرب تموز، محكومٌ هذه الأيام بالبقاء متسمّرا أمام الفضائيات حتى تستقر الأوضاع في لبنان. فكلنا نهوى لبنان، البلد العربي الوحيد الذي أذاق «إسرائيل» طعم الهزيمة مرتين خلال ستة أعوام، بينما ظلت الدول العربية الكبرى تلهث ستة عشر عاما وراء السلام الإسرائيلي الأميركي ولا تُعطاه. ويحزن هذا الجمهور أن يجلس ليستمع إلى خطاب المفتي وهو يصف المقاومة التي ردّت العدوان عن بيروت بالعصابات. ويحزنه أكثر أن يتماهى خطابه مع خطاب الإسرائيليين، أو يستخدم مفردات الساسة العرب المفلسين.
والمحزن أكثر أن يقبل سماحة المفتي، بعلمه وجلاله وهيبته، بالسير وراء أقزام السياسة وأمراء الحرب. محزنٌ أن ينقاد سماحة المفتي إلى مشروع فتنة يؤجّجه شخصٌ قاتلٌ سارقٌ كذّاب، مثل وليد جنبلاط، اعترف أمام الملايين بأنه كان يكذب على السوريين منذ ثلاثين عاما! وهو ما دعا الأميركيين لإطلاق النكات: «وهل سنتحمّل أن يكذب علينا هذا المعتوه ثلاثين عاما أخرى»!
المحزن أن يتكلم المفتي بمفردات الفتنة، ويتبنى طرحا طائفيا ضيقا من قبيل أن الشيعة يستهدفون السنة في لبنان، فيختزل فشل الساسة اللبنانيين وعجرفتهم واستهتارهم، وهوان بلدهم عليهم، يختزله بالخلاف بين السنة والشيعة. وسيُكتب علينا أن نكون شهودا من الآن فصاعدا، ليس على سقوط الساسة وحسب، بل على سقوط بعض المرجعيات الدينية التي كانت تمثل ملاذا آمنا في أزمنة الفتن والاحتلالات، فأصبحت تابعة منقادة لصبيان ومراهقي السياسة.
المشهد الآخر المحزن، أن تشاهد الرجل الذي قاد أنجح حركةِ مقاومةٍ عربية، أدّت إلى دحر العدو الصهيوني، وتحرير الأرض من براثنه بعد عشرين عاما من الاحتلال، تراه جالسا في مؤتمر صحافي، يدافع عن سلاحه المطلوب نزعه إسرائيليا، وتتخذ الخطوات الأولى للشروع في ذلك، على يد حكومةٍ مراهِقةٍ ينقصها الإحساس بالمسئولية تجاه الوطن وسلامته وأمنه... حكومةٍ متورطةٍ حتى النخاع في سياسة المناكفات والمناكدات الصغيرة.
بعيدا عن كل العصبيات المذهبية والطائفية، وبمنظار عروبي وإسلامي واضحٍ وشفّاف، أنت أمام مشروع الممانعة ضد الغزوة الأميركية للمنطقة، التي تبشّر بولادة شرق أوسط تابعٍ خانعٍ وذليل. وويلٌ لأمةٍ تقدّم رأس قادة مقاومتها هدية إلى مقصلة الغزاة.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2074 - السبت 10 مايو 2008م الموافق 04 جمادى الأولى 1429هـ