صباح أمس انتهت فترة اتفاق الهدنة (التهدئة) بين حركة «حماس» وحكومة تل أبيب التي دامت نحو ستة أشهر عانى منها القطاع المزيد من الحصار والضربات المتقطعة.
الفصائل الفلسطينية وجدت في الاتفاق بعد تقييمه من كل الجوانب مجرد ورقة تستخدمها «إسرائيل» لتحوير الصراع وحرفه عن مساره. ورأت أيضا أن الاتفاق لم يرفع الحصار عن القطاع وأدى إلى تشجيع حكومة إيهود أولمرت على استخدام المعابر والمنافذ والممرات أدوات ضغط تستهدف تحويل غزة إلى مشكلة عربية تؤجج الانقسامات الفلسطينية وتستعدي القوى السياسية وتستقطبها ضد العرب بدلا من أن تتركز الجهود ضد تل أبيب.
الفصائل الفلسطينية اكتشفت متأخرة تلك الأخطاء التي ارتكبتها «حماس» ضد رمزية القضية بسبب انجرافها نحو تعزيز سلطتها على القطاع حتى لو كلف الأمر وقف إطلاق النار مع الاحتلال وفتحه ضد العرب. فالاتفاق الذي وقعته حكومة إسماعيل هنية مع حكومة أولمرت أعطى وظائف سيئة وسلبية حين جعل من «حماس» قوة عسكرية تلعب دور «حرس حدود» تحمي أمن «إسرائيل» بذريعة عدم التفريط بالسلطة وحماية «الإنجازات» التي حققتها ميدانيا بعد الانقسام والانقلاب وتمزيق وحدة القضية. وتحت سقف عدم إعطاء ذريعة للعدو لجأت «حماس» إلى استخدام القوة ضد الفصائل الفلسطينية في القطاع فأخذت باحتلال المقرات وإقفال الأندية وتعطيل المؤسسات الخيرية والتعليمية والطبية واقتحمت الأحياء وواجهت عائلات وتصادمت مع أحزاب وأطلقت النار على مظاهرات نقابية وقمعت تجمعات ومنعت احتفالات بمناسبة تأسيس حركة «فتح» أو رحيل ياسر عرفات.
كل هذه الأفعال وغيرها جرت تحت عنوان حماية السلطة وعدم توفير الذرائع للعدو حتى لا يستخدمها وسيلة للضغط أو القتل أو التجويع.
إلا أن العدو نجح في استخدام اتفاق الهدنة (التهدئة) على أكثر من صعيد. فهو رفع درجة الحصار وأمعن في سياسة التجويع ودفع الانقسام الأهلي إلى أعلى مستوياته. وهو أيضا استطاع تزييف الوقائع وتحويرها حين نجح في تصوير الكارثة بأنها مشكلة عربية ولا علاقة لها بالاحتلال. وهذه المسألة تعتبر ضربة موجعة للقضية لأنها نقلت الصراع مع الاحتلال إلى ساحة تجاذب سياسية توجه الاتهامات ضد العرب وترفع المسئولية عن تل أبيب. وتحويل مشكلة القطاع من قضية سياسية لها صلة مباشرة بالاحتلال والتحرير إلى مسألة إنسانية (غذائية) وعاطفية (مشاعر) يشكل نقطة إضافية نجحت تل أبيب في كسبها من خلال اتفاق الهدنة (التهدئة). أحيانا كانت حكومة أولمرت تفتح المعابر جزئيا أو تسمح لبعض السفن بالعبور أو تنقل المواد الطبية أو تعطي الأذن للشاحنات بتمرير الوقود أو الطحين وغيرها من حاجات ضرورية بقصد تحسين صورتها وإظهار موقعها الجيد لكونها جمعية خيرية أحرص على حياة الناس من «حماس» أو «فتح» أو السلطة أو حتى الدول العربية.
عمليات إقفال المعابر والممرات ثم فتحها وإقفالها وإعادة فتحها زعزعت الصورة وشوهت الحقائق ميدانيا وأعادت رسم خريطة للمأساة حين نجحت في انتزاع المشهد من إطاره السياسي الحقوقي (حق الكفاح) ووضعه في إطار إنساني (تجويع الناس وحرمانهم من أبسط متطلباتهم). ولعبت عمليات الإقفال والفتح دورها في إعادة تركيب المشهد وتحويله إلى الداخل الفلسطيني والمحيط الجواري العربي. فحكومة أولمرت كانت تقطع الإمدادات عن قصد حتى يبلغ سكان القطاع مرحلة الجوع وبعدها تتظاهر بالليونة والشفقة فتسمح بمرور شاحنات الغذاء والوقود والإسعافات الطبية تحت الأضواء الكاشفة وعدسات التصوير. وبعد أن ينتهي تصوير المشهد «الإنساني» و«الخيري» تعود مجددا إلى سياسة الإقفال حتى تعطي مفعولها المضاد ويتحول الحصار إلى مشكلة فلسطينية وعربية تتحمل مسئوليتها المباشرة «حماس» ولا علاقة للمسألة بالاحتلال وأصله وفصله.
غياب «إسرائيل»
تغييب «إسرائيل» عن مشهد الصورة أو على الأقل مساواة مسئوليتها مع غيرها يعتبر من المكاسب المهمة التي نجحت حكومة أولمرت في تسجيلها ميدانيا بعد توقيع اتفاق الهدنة (التهدئة). وفكرة المشاركة في تحمل المسئولية أعطت وظيفة سياسية لمصلحة تل أبيب مقابل شحنات من الإحسان والشاحنات المحملة بالحبوب والوقود. حتى مسألة الأموال (النقود) لم تتردد تل أبيب في استخدامها لأغراض سياسية إذ كانت تحجم عن تسويق الشيكل (العملة الإسرائيلية) وتصديرها إلى غزة بقصد إثارة مشكلة النقص في السيولة وتداول البضاعة (الشراء والبيع) لتعلن بعد نداءات استغاثة عن إرسالها كميات من الأموال النقدية (30 مليون شيكل شهريا) لمساعدة الناس على تصريف أعمالهم وترتيب أحوالهم.
هذه الألعاب التي لجأت إليها حكومة أولمرت ليست جديدة، فهي مارستها كل حكومات الاحتلال من دون انقطاع ضد الأهل في الضفة والقطاع خلال العقود الماضية. إلا أن تل أبيب نجحت في فترة حكم «حماس» أن تستخدم الإقفال والفتح سياسيا بقصد إعادة توظيفه في معارك داخلية ترفع درجات التوتر الأهلي وتوسع من نسبة الاختلافات بين الفصائل حتى تندفع إلى مواجهات مسلحة ضد بعضها كما حصل مرارا في السنة الماضية.
«حماس» الآن تلعب سياسة غير مفهومة في المكان الخطأ وتوقيت غير مناسب بعد أن تورطت في مسألة الصراع على السلطة من دون قراءة موزونة لمختلف الجهات والجوانب الجغرافية واللوجستية. فهي بعد تجربة السلطة باتت أكثر تمسكا بها مقابل تراجعها عن الكثير من الأفكار والبرامج التي استخدمتها سابقا مجموعة ذرائع وشعارات ضد «فتح» أو للاعتراض على رئاسة محمود عباس. والتجربة السلطوية التي مارستها «حماس» في القطاع لم تكن أفضل إذ لم تنجح حكومة هنية في تقديم ذاك النموذج المختلف في تعامله مع الداخل الفلسطيني أو مع الاحتلال. فمع الداخل دخلت بمواجهات مسلحة مع الفصائل والأحزاب والنقابات والأندية والجمعيات والأحياء والعائلات أودت بحياة المئات بين قتلى وجرحى. ومع الاحتلال وقعت اتفاق هدنة (تهدئة) مع حكومة تل أبيب بهدف حماية مكتسبات السلطة وتحولت إلى «حرس حدود» ونقلت المشهد في القطاع من إطار المواجهة السياسية مع العدو الصهيوني إلى إطار تعاطف إنساني تتحكم «إسرائيل» في معابره ومداخله وممراته وأنفاقه ومتعرجاته.
هذا الفشل المزدوج يطرح السؤال على قادة «حماس» ويضغط باتجاه إعادة قراءة المسألة نقديا من خلال تقييم تجربة القطاع وما أنتجته من انقسامات سياسية وأهلية عززت صورة «إسرائيل» في تعاملها الداخلي وأعطتها فرصة للظهور في موقع يتقاسم مسئولية الحصار مع أطراف فلسطينية وعربية. فالفشل في التجربة يحتاج فعلا إلى دراسة تتجاوز حساسية الاختلاف الأيديولوجي أو الحسابات الانتخابية أو التنافس على مقاعد السلطة باتجاه تطوير الرؤية انطلاقا من تلك الإطارات الواقعية التي تتحكم الجغرافيا بمفاتيحها اللوجستية ما أدى إلى رفع درجة الحصار وتجويع الناس مقابل «اتفاق هدنة» كانت تل أبيب بحاجة إليه حتى تتهرب من التزاماتها الدولية على المسار الفلسطيني.
إعلان «حماس» والفصائل الفلسطينية صباح أمس عن إنهاء اتفاق الهدنة (التهدئة) بعد انتهاء فترة الشهور الستة يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح. إلا أن الخطوة ليست كافية لتصحيح الصورة التي تحطمت سياسيا بعد دوس كوفية أبو عمار. فالحركة التصحيحية تحتاج إلى قراءة نقدية لذاك المنهج الحزبي الذي أوصل تجربة القطاع من مواجهة مع الاحتلال إلى حال من الحصار الإنساني الموجه ضد العرب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2297 - الجمعة 19 ديسمبر 2008م الموافق 20 ذي الحجة 1429هـ