«عدو عدوي صديقي»، هو أفضل وصف لطريقة تعامل الحكومة الإيرانية مع الاحتلال الأميركي في العراق.
إيران لا تريد أن يهنأ الأميركيون باحتلالهم ووجودهم العسكري والسياسي في العراق، لكنها في الوقت نفسه تريد نجاح الحكومة الحالية في عملها، وخصوصا أن اقرب الاحزاب إليها هم الآن على هرم السلطة في بغداد، فمعظمهم خلال سني المعارضة كان في إيران ومن لم يكن فيها كان يتلقى دعما ماليا أو سياسيا على الاقل، وهذا الدعم لا يخص الاحزاب الشيعية فحسب بل يشمل الاحزاب الكردية أيضا.
تعتقد إيران، وهي محقة في ذلك، أن نجاح الادارة الاميركية في العراق يعني ضغوطا متزايدة على طهران، ومواقف غربية متشددة ضدها وخصوصا في الملف النووي، كما أن هذا النجاح يعني نهاية المرحلة الاصعب في تأسيس نظام «شرق أوسطي جديد» كما بشر به الرئيس الأميركي.
لكن، كيف يمكن لإيران أن توازن بين حالتين متناقضتين احداهما دعم الحكومة العراقية والاخرى محاربة الداعم «الشرعي» لهذه الحكومة وهي قوات الاحتلال؟
المسألة ليست سهلة، بل هي معقدة ويمكن أن تفلت من يد صانعي السياسة الخارجية الايرانية في أية لحظة، فطهران تدعم أية جماعة حتى وإن اختلفت معها في التوجهات والاهداف، وهي تكتفي لتقديم الدعم بأن يكون هدف هذه الجماعة هو محاربة القوات الاميركية ورفض التعامل مع الاحتلال.
لن نبحث هنا عن علاقة إيران بجميع اعداء أميركا في العراق وهم كثر ومن مختلف الاتجاهات، فهناك بالتأكيد مجاميع اخرى تعمل إيران على تجنيدها وتقوم بمساعدتها على ضرب اهداف أميركية، ولا يستبعد من هذا الوصف عناصر تنظيم القاعدة الذي يعلن عداءه لأميركا وللذين يساعدون على بقائها في العراق والمقصود بالنسبة لهم قوات الصحوة التي صارت هدفا مباشرا للعمليات الانتحارية، وخصوصا أن هذا التنظيم لم يجد حتى الآن ملاذا آمنا لتواجده والانطلاق بعمليات داخل العراق غير سلسلة جبال حمرين المحاذية لإيران من جهة محافظتي ديالى وكركوك اللتين مازالتا من بين أسخن المحافظات العراقية.
قلت: لن أحاول البحث في مختلف الجماعات التي تحاول إيران استقطابها إلى جانبها في محاربة الاحتلال الاميركي للعراق بل سأتطرق إلى ما يتردد الآن عن دعم طهران للتيار الصدري وخصوصا جناحه العسكري (جيش المهدي).
في البداية، لا يمكن الحديث عن التيار الصدري من دون استحضار ظروف إنشاء تيار السيدموسى الصدر المعروف بتأسيسه «حركة المحرومين» و «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» في لبنان ونجاحاته على مستوى إنشاء الكثير من الأعمال الاجتماعية وسط الطائفة الشيعية في الجنوب اللبناني، وما تبع ذلك من تأهيل كوادر للانضمام إلى حزب الله الذي مازال يعمل وبشكل نشط بالقرب من حدود الاحتلال الاسرائيلي للبنان.
التيار الصدري نشأ وترعرع في التسعينيات من القرن الماضي داخل مختلف المحافظات ومن بينها العاصمة بغداد والمناطق ذات الغالبية الشيعية التي كانت تعاني من البطالة والفقر الشديدين بسبب عوامل عدة في مقدمتها الحصار الاقتصادي القاسي، وكان مؤسس التيار كما يعرف الكثيرون السيد محمدصادق الصدر والد رجل الدين الشاب زعيم التيار الصدري الحالي مقتدى الصدر.
هذا التيار لم يكن اكثر من تجمع ديني أخذ طابعه السياسي بعد اعلان مؤسسه إقامة صلاة الجمعة التي كانت ترفض المراجع الشيعية في العراق اقامتها، طيلة السنوات التي سبقت غزو العراق، انزوى مساعدو مؤسس التيار لحين بدء الغزو الاميركي للعراق، حيث بدأ التيار يأخذ بعده السياسي، وخصوصا عقب تدخل عدد من السياسيين لإنشاء ما كان يطلق عليه «البيت الشيعي العراقي».
نجحت إيران من خلال القواعد الحزبية للتيار الصدري غير المنتظمة بتشكيل سياسي في اختراق هذا التيار وتأسيس ما تسميه واشنطن «مجاميع خاصة» تقوم بعمليات عسكرية ضد القوات الاميركية في العراق. ووفقا لشهود من داخل معاقل مناصري التيار الصدري فإن المجاميع الخاصة تملك اسلحة حديثة ومتطورة قادرة على ضرب اهداف اميركية بدقة لا يمكن للجيش العراقي الجديد مجاراتها.
ومثلما نجحت إيران في تشكيل مجاميع خاصة من داخل التيار الصدري، نجحت أيضا في استغلال جماعات منشقة عن هذا التيار لإحداث فوضى في بعض المحافظات العراقية لغرض احراج القوات الاميركية وتشتيت اهدافها بطريقة تقربها من الفشل في العراق.
كان يمكن لغير إيران أيضا أن تحتوي عناصر كثيرة من قواعد التيار الصدري الذين مازالوا يمثلون طبقة الفقراء العاطلين عن العمل أو من الذين يعملون في اعمال بسيطة غير خاضعة للدولة، وهم الى الآن يشعرون بأنهم مهمشون نسبة الى احزاب شيعية نافذة موجودة حاليا في السلطة.
سياسيا، ومن وجهة نظر ايرانية على الاقل، لا يمكن لأحد أن يلوم طهران المهددة من واشنطن بعملية عسكرية مؤجلة والداخلة ضمن محور الشر لدى الرئيس الأميركي جورج بوش، على محاولاتها لإفشال المخطط الاميركي في العراق والمنطقة، وخصوصا أنها تسعى إلى إظهار دورها الرئيسي في استقرار المنطقة أو تهديدها بفوضى تهدد واشنطن والعالم قبل أن تهدد النظام الايراني، ومنطقيا - بالنسبة إلى طهران دائما - فإيران الساعية الى مقاومة الاهداف الاميركية على اراضي دول المنطقة افضل لها بكثير من أن تقاوم هذه الاهداف على اراضيها.
على الطرف الآخر... تبدو الحكومة العراقية عاجزة عن انهاء العنف على رغم اطلاقها «صولة الفرسان» في محافظة البصرة الغنية بالنفط، بالاضافة الى عملياتها الاخرى ضد من اسمتهم الخارجين عن القانون في شرق العاصمة بغداد والمحافظات الشيعية الاخرى، والتي راح ضحيتها حتى الآن نحو ألف قتيل وأربعة آلاف جريح خلال شهر أبريل/ نيسان الماضي، وهو رقم قابل للزيادة اذا قررت الحكومة العراقية المضي في ضرب معاقل جيش المهدي.
لا يمكن للحكومة العراقية التي لا تريد صراعا جديدا مع إيران أن تعلن صراحة أن طهران تقف وراء تسليح الجماعات المناوئة للاحتلال الاميركي في العراق، وهي ايضا غير قادرة على المضي بعيدا في ضرب التيار الصدري الذي بدأ يتهم الحكومة الحالية بأنها تنتهج سياسة ممنهجة في ضرب الشعب العراقي، ولاسيما أن ذلك سيؤثر على مستقبل الاحزاب السياسية المؤتلفة في الحكومة الحالية كما أنه قد يؤدي الى مقتل آلاف المدنيين المتعاطفين مع التيار الصدري وجناحه العسكري جيش المهدي الذي يتركز في بغداد داخل منطقة محدودة يعيش فيها نحو مليوني نسمة.
إن طهران عندما ترفض الآن استئناف المفاوضات مع واشنطن بشأن الوضع الامني في العراق إلا بعد وقف العمليات العسكرية ضد التيار الصدري، تبدو محقة في هذا الاجراء، وخصوصا أن الهدف من دخول إيران في مفاوضات مباشرة مع أميركا بوساطة حكومية عراقية هو استتباب الامن الذي تقوم القوات المحتلة بتطبيقه على الارض من خلال العمليات العسكرية ضد معاقل التيار الصدري الرافض للاحتلال الاميركي، والداعم بشكل أو بآخر لأية مجموعة تحارب معها ضد الاحتلال.
محاولات إيران لاحتواء تيار كبير في العراق مثل التيار الصدري من جانب والاستمرار في دعم حكومة تتباهى طهران اليوم بأنها أول من اعترف بها من جانب ثانٍ، هما خطان مستقيمان لا يتقاطعان ولا يتفقان سياسيا من حيث المبدأ، لكنهما يتشاركان في تحقيق هدف استراتيجي ايراني كبير مترابط العرى ووثيق الصلة بمتغيرات أخرى ضمن ملف مستقبل الوضع الاقليمي لإيران في المنطقة، هذا الملف الذي يحوي من بين أوراقه الفوضى العراقية ووضع حزب الله في لبنان وقدرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على تهديد الامن الاسرائيلي والقدرات النووية الايرانية الصاعدة، كلها قد تمثل أوراقا داعمة لمستقبل الوضع الايراني كما تتمناه طهران.
استراتيجية إيرانية طفح الكيل برئيس إيراني سابق هو السيدمحمد خاتمي حد التحذير من مغبة المضي قدما فيها، وعلى رغم ذلك فإنها تحقق للايرانيين نجاحات عدة لعل في مقدمتها التشويش على واشنطن التي لا تستطيع التركيز في معمعة العراق مع وجود مجاميع المقاومة المسلحة فكيف الحال وقد دخلت على الخط - بطريقتها الخاصة - قوة اقليمية بحجم إيران...
أخيرا... الاسابيع القليلة المقبلة ستكون حاسمة في ترتيب اوراق العلاقة الايرانية - العراقية وخصوصا مع الزعيق الاميركي المتواصل بشأن دور ايراني في بلاد ما بين النهرين، وستجد إيران نفسها قريبا أمام خيارات محدودة للغاية؛ أما الاستمرار في استراتيجيتها الحالية (وهو الخيار الاصعب) أو المناورة وتخفيف اللعب بانتظار متغيرات اخرى وهو الخيار الملح لإيران وحلفائها في العراق حكومة واحزابا، بل هو خيار البحث عن مخرج...
إقرأ أيضا لـ "علي الشريفي"العدد 2070 - الثلثاء 06 مايو 2008م الموافق 29 ربيع الثاني 1429هـ