انقضى شطران من مراحل توزيع علاوة الغلاء بأسلوب تقطيري استفزازي اختارت الحكومة له عنوانا جميلا يليق بكرامة مواطنيها، إذ أسمته «إعانة» في إشارة واضحة إلى أن المواطن (العادي) لا يملك قطميرا في جيب الحكومة، وكلُ ما يُرمى عليه من بعد طول معاناة ومهانة هو من مال غيره.
حركة تقشفية تستذل في مضمونها أكثر مما تفيد، وتُذكِّر بتلك الوجنات المُحْمَرَّة التي كنا نشاهدها برأفة أيام المدرسة، إذ يدخل الأستاذ المسئول عما تسمى بـ «معونة الشتاء» فيقرأ كشف أسماء المحتاجين والمستفيدين من المعونة أمام مرأى ومسمع جميع الطلاب ليخرجوا ويأخذوا إعانتهم بوجوه يصبغها الاحمرار والخجل من أصدقائهم ميسوري الحال، وهم يتمنون أن الأرض تبتلعهم بدلا من هذا الإذلال الممعن، وياليتها إعانة «تستاهل».
في أفضل الأحوال سيحسن الناس الظن بالمسئولين وسيشكرونهم لأنهم قدّروا المزيد المزيد من الغلاء بالقليل القليل من «الإعانة»، وسيتناسون أنها جاءت غير متزامنة أصلا مع الغلاء الذي بدأ يتنامى قبل أكثر من عام، هذا شأن من نزلت عليهم رحمة الحكومة وكان حظهم من السماء أن استكملت معلوماتهم خلال أربعة أشهر بسرعة قياسية، وتسلموا «الإعانة» بسلام، أما الباقون فنقول لهم «سيحوا في الأرض أربعة أشهر» أخرى حتى يأيتيكم الفرج، فالمسئولون مازالوا عاكفين على استكمال الإجراءات المعقدة لمعونتكم، وصبرا طويلا.
لا بشارة في عيد العمال
أكثر ما يتخوف منه المواطنون المستحقون لعلاوة الغلاء هذه الأيام هو نفاد الموازنة المرصودة للعلاوة الذي بدأ يلوح في الأفق من دون أن يحصلوا على نصيبهم البخس. وهم بانتظار ما ستسفر عنه المذكرة التفصيلية التي سترفعها وزيرة التنمية الاجتماعية ورئيسة لجنة صرف العلاوة بالتنسيق مع وزارة المالية
المعنية بالصرف لطلب الدعم لتغطية النفقات الإضافية بعد زيادة أعداد المستحقين.
تشير المعلومات الرسمية إلى أن القائمة الأولى لعلاوة الغلاء الخاصة بالمساعدات الاجتماعية استنفدت ستة ملايين دينار، من إجمالي الموازنة المرصودة، بينما ستكلف القائمة الثانية للعلاوة 31 مليونا و200 ألف دينار، وبالتالي فإن القائمتين ستستنزفان 37 مليونا بنسبة 93 في المئة، وإذا افترضنا أن المتبقي من الموازنة 7 في المئة فقط، فإنه لن يغطي في أحسن الأحوال باقي المستحقين، ما يعني حتمية العجز المالي في الموازنة، وذلك بالنظر إلى القوائم التي سيتم الإعلان عنها قريبا المتعلقة بالمسجلين الجدد، فضلا عما ستفضي إليه مراجعة حالات التظلم وأصحاب السجلات التي لم يتم التطرق إليه بعد، وعلى رغم أن الحكومة تعهدت سابقا بتغطية العجز في الموازنة لو حصل فإن المواطنين يتساءلون عن المدة التي سيبقون ينتظرونها فوق ما انتظروه طوال الفترة الماضية، وخصوصا أن التغطية لو أقرتها الحكومة ستمرر عبر مجلس النواب المنشغل حاليا بتجاذباته الداخلية التي لا ناقة للشعب فيها ولا جمل.
انتظر الناس بادرة كبيرة تعلنها السلطة في عيد العمال لتتدارك بها تردي الوضع المعيشي بدلا من طوابير المنتظرين لبضعة دنانير منذ عدة أشهر بلا جدوى. فالمؤلم أن يرى أبناء البحرين جيرانهم في بلدان مستواها الاقتصادي ليس أفضل حالا من بلدهم، وهم يحظون بتقدير حكومي لمشكلة الغلاء يفوق ما تستكثره البحرين على أبنائها، عبر ممرات ضيقة ومماطلات لا تنتهي.
عجزان مثيران... مالي ومعلوماتي
ناتج هذه الزوبعة الذي يخلص إليه المواطن معدوم الحال هو حقيقة أن الجهاز المركزي للمعلومات بحكومته الإلكترونية مازال عاجزا عن توفير معلومات أساسية تهم المواطنين وخصوصا فيما يتعلق بتحديد المستوى المعيشي، ما يوحي بأن الجهاز ربما كان منشغلا طوال الفترة الماضية بالتركيز على معلومات أخرى. وإلا بماذا يفسر المواطن كل هذه التعقيدات من أجل أن تمن عليه الحكومة بخمسين دينارا ليكافح بها نار الغلاء التي تفوق تبعاتها 200 دينار شهريا في غالبية الأسر؟!
ليس واضحا حتى الآن اللبس الحاصل في المعلومات السكانية لبلد يعد من أصغر بلدان العالم مساحة وسكانا، كما أنه مثير للشك هذا التذبذب في الأرقام الإحصائية المفصح عنها رسميا. فلعل سكوت الحكومة يدل على شعورها بأنها أخطأت التقدير بزيادة مكيال التجنيس السياسي بما يفوق قدراتها على ضبط وتيرة التعداد السكاني، ولم تأخذ في حسبانها عمليات التوالد المتسارعة، ففقدت السيطرة على الإحصاء. كما أن الاحتمال الآخر (وهو الأقرب) يفترض إحاطة الحكومة وجهازها الإحصائي بكل التفاصيل والأرقام السكانية، غير أنها تخشى الإفصاح عنها حذرا من تبعات احتجاجية على المستويين العالمي (ولو على الأقل من قبل الجهات الحقوقية) والداخلي من فتنة غير محمودة العواقب.
ما نعلمه يقينا هو أن المسئولين عن سياسة التجنيس بدأوا يحصدون ما زرعت أيديهم، وثمة مخاوف من لحظة الانهيار المقبلة التي تعلن فيها الحكومة عجزها عن مجاراة موجة الغلاء العالمية، فتأمر مواطنيها بوضع حجر المجاعة على بطونهم. فبدءا من المدينة الشمالية وموازنتها الضائعة ومرورا بمشروعات تطوير القرى التي بدأت تؤخرها وزارة الأشغال وليس انتهاء على ما يبدو بـ «معونة الغلاء» صارت الجهات الحكومية تلوح بالعجز المالي في أكثر من تصريح، متعذرة بارتفاع الأسعار. هذا حال الحكومة فما بال مواطنيها؟!
أمل البحرين كبير في خطوات إصلاحية جريئة وعاقلة تتدارك هذه التراكمات المخيفة قبل فوات الأوان، والتعويل الكبير هنا على مجلس التنمية الاقتصادية من أجل خلق مشروعات لإيجاد توازن حقيقي بين ارتفاع الربح في مؤشر الاقتصاد التجاري من جهة وانخفاض الاقتصاد الخدماتي الذي يهم الشريحة الأكبر من جهة أخرى.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2068 - الأحد 04 مايو 2008م الموافق 27 ربيع الثاني 1429هـ