ثمة ضجيج عال جدا مشوب بالتشويش والاضطراب, ينبعث من أكثر من نقطة في العالم وعلى أكثر من مستوى وحول أكثر من ملف من ملفات بلادنا الواسعة المنتمية الى العالم الإسلامي، ولاسيما القسم المسمّى بالوطن العربي منه, عنوانه العريض: «المفاوضات»!
مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بأنواعها المختلفة!
مفاوضات بين العرب والإسرائيليين أيضا بأنواعها المختلفة!
مفاوضات بين الإيرانيين والإميركيين في بغداد وغير بغداد!
مفاوضات بين حزب الله اللبناني وبين الإسرائيليين وإن بشكل غير مباشر حول الأسرى!
واخيرا وليس آخرا بين سورية و»اسرائيل» بتسريباتها المختلفة، ولاسيما عبر الوسيط التركي المعلن!
وقد تكون هناك مفاوضات أخرى لم نسمع عنها في الإعلام ربما يأتي يوم نسمع عنها عندما يقرر إصحابها الإعلان عنها!
ثمة متحمّسون حتى النخاع دفاعا عن هذه المفاوضات او تلك, وآخرون متحمّسون لمهاجمتها حتى الموت او الاستشهاد, وما بينهما الكثير ممن ينتظر النتائج حتى يعلن موقفه النهائي!
والمتحمّسون للمفاوضات عادة ما يُهاجمون الرافضين لها ويتهمونهم بالعدمية في المواقف وبالتالي في تضييع الفرص الذهبية!
امّا المعارضون للمفاوضات بحماس, فعادة ما يخوّنون المفاوضين ويتهمونهم بالانبطاح والاستسلام للخصم والضعف والهوان أمامه, ومن ثم تمييع القضية المبدأية المعنية!
هذه الطريقة الكلية في الحكم على الأشياء والوقائع ليست منطقية بالأساس, وهي لم تعد كذلك اليوم أكثر من أي وقت مضى أكثر, بسبب الحشد الهائل من التشابكات والتعقيدات والتداخلات والحيثيات الدائمة التغيّر التي باتت تحيط بهذه المقولة المثيرة للجدل أصلا!
اعرف أن الخيانة أو الجاسوسية أو التفريط بالمبادئ أو التنازل عن الحقوق يجب ألا تتحوّل الى مجرد «وجهة نظر» كما يقال بل يجب أن يُحاسب عليها وبكلّ صرامة, كما أعرف أن تضييع الفرص والعدمية في قراءة الوقائع والمتغيّرات او «الدوغمائية» في السلوك السياسي قد تؤدّي أحيانا بالمرء إلى ما هو أسوأ من الخيانة والتفريط! وإنّ الحكم «بالجملة» في هذا المضمار منهج فيه افتئات وتعسف وعدم انصاف!
ولذلك يستحضرني في هذا السياق آية: «ولا تبخسوا الناس أشياءهم» والحديثان او القولان الشائعان: «المؤمن كيّس فطِن» و»لا تكن يابسا فتكسر ولا تكن ليّنا فتعصر»!
لكن ما اريد قوله والتأكيد عليه اليوم أمام هذا الضجيج المفتعل مرة والطبيعي أحيانا, والذي يلعب على وتره العدو والخصم كثيرا ويقع في دهاليزه ويضيع الكثير من المحللين هو شيء آخر: أنه المضمون وليس الشكل؛ اي أن ليس كل مفاوضات هي مثل غيرها وليس كل المفاوضين متشابهين وليس كلّ الملفات تحمل الحيثيات نفسها والأهم من كل هذا او ذاك هو حالة موازين القوى التي قد تفرض في مكان ما مفاوضات وتهدئة ووقف مؤقت للنزاع أو نوع من أنواع فك الاشتباك, فيما تفرض في أخرى القطيعة والقتال والذهاب في الصرامة والحسم والقطع مع العدو القتال والجهاد حتى الاستشهاد!
لماذا وكيف؟! هذا ما يحدده جوهر القضية المتنازع عليها واتجاه البوصلة في كلّ نزاع وموازين القوى كما اسلفنا التي تستدعي «استراحة محارب» مرة, فيما تستدعي في أخرى القتال حتى النفس الأخير!
ثمة من يأخذ على المجاهدين الفلسطينيين مثلا انهم قبلوا بالتهدئة هنا أو هناك, او مَنْ يقول اذا كان ذلك حلالا لهؤلاء فلماذا تحرّموه على غيرهم؟! وينسى او يتناسى متعمّدا او غافلا بان ما يؤخذ على الآخرين هو ليس التفاوض بعينه بل التنازل أثناء المفاوضات عن حق تاريخي أو مبدأ اساسي من مبادئ الدفاع والكفاح من أجل ذلك الحق المقدس!
أو ثمة مَنْ يتعمّد التشويش مثلا على مفاوضات حزب الله اللبناني غير المباشرة أصلا مع العدو من أجل فرض شروط تحرير الأسرى, متخذا من ذلك معبرا لدور مشبوه يريد التغطية عليه لغاية في نفس يعقوب! أو ضعف أو هوان يبحث عن وسيلة لتبريرهما لنفسه أو التلاعب بالمقولات بهدف «تسقيط» خصمه السياسي الداخلي!
أو ثمة مَنْ يريد جعل المفاوضات الإيرانية - الإميركية بشأن العراق على الرغم من إشكاليتها المعتبرة لدى قسم لا بأس به من الإيرانيين ولدى أهل الدار من العراقيين, معبرا له «لتسقيط» صورة إيران لدى العراقيين والعرب والمسلمين وإظهارها وكأنها «متواطئة» مع الاحتلال الأميركي! أو يلعبها ورقة في إطار التجييش والحشد ضد إيران في إطار لعبة المحور الأميركي الإسرائيلي الباحث عن «إيران فوبيا» يضع من خلالها إيران عدوّا مزعوما للعرب بديلا عن «إسرائيل»!
واخيرا وليس آخرا الضجة التي لم تتوقف بشأن المفاوضات السورية الإسرائيلية سواء إن كانت سرية او احتمال أن تصبح علنية وسواء بدأت غير مباشرة أو برعاية أميركية أو بدأت مباشرة في وقت ما! حيث لم يتوقف الكلام المرسَل على عواهنه حول «تخلّي» سورية عن فصائل المقاومة الفلسطينية أو «الطعن» بالعلاقة مع حزب الله أو فك التحالف الاستراتيجي مع إيران الى ما هنالك من الخيال الواسع الذي يعبّر في الواقع عن رغبات وطموحات المتبرعين في الكلام أو المخططين للعبة من أساسها, أكثر مما يعبّر عن تحليل واقعي لحيثيات مثل تلك المفاوضات الواقعية او المفترضة!
من صلح الحديبية الى واقعة كربلاء مرورا بكل القضايا والمعارك الكبرى في التأريخ القديم والحديث, كان العالم ولا يزال مليئا بالمفاوضات, لكن ما طرح خلالها من مضامين وما أفرزته من نتائج كان دوما هو معيار الحكم عليها, وهنا ثمة مثل إيراني معبّر يقول:» يتم تعداد الفراخ في الخريف»!
من جهة أخرى فإنّ الأحداث التي سبقت واقعة كربلاء التأريخية المعروفة تؤكّد بان الإمام الحسين عليه السلام هو مَنْ تطوّع «لمفاوضة» قائد جيش الخصم؛ أي عُمر بن سعد ذاهبا بنفسه الى خيمة الأخير ثلاث مرات, غير أنّ الجميع يعرف بقيّة القصة التي سطر فيها سبط الرسول (ص) ملحمته التأريخية الشهيرة باستشهاده ودفاعه المنقطع النظير عن القيم والمبادئ!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 2067 - السبت 03 مايو 2008م الموافق 26 ربيع الثاني 1429هـ