نشأت فكرة الوحدة الأوروبية بعد جهود مضنية بذلها بعض الزعماء السياسيين في أوروبا للبحث عن الاستقرار وإحلال الأمن والسلام في ربوع القارة الأوروبية التي تعرضت شعوبها لويلات الدمار والقهر والتعسف وسفك الدماء الغزيرة التي تسببت بها الحربان العالميتان الأولى والثانية.
واعتبر السوق الأوروبي الداخلي الذي مثّل النواة الأولى لمشروع الوحدة الكبرى حقيقة قائمة وخطوة واقعية لبلوغ الهدف الأسمى وهو الاتحاد الأوروبي السياسى والاقتصادي والأمني والعسكري. وهو أصبح اليوم يمثل رمز الوحدة الأوروبية وحلم شعوبها الذي طال زمنيا الى هذا الوقت بتكريس المصالحة وتوطيد السلم والأمن والاستقرار وتوسيع التجارة البينية في الفضاء الأوروبي وتوحيد الاقتصاد النقدي وتعزيز التآخي والتعاون المشترك والمصير.
ومن منطلق درء مخاطر نشوب الحروب الجديدة في القارة الأوروبية، عبر استفراد دولة واحدة بصناعة الصلب والفحم قامت إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا الغربية ولوكسمبورغ بتأسيس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في العام 1951 والتي كانت نواة للمجموعة الأوروبية السوق المشتركة والجماعة الأوروبية للطاقة الذرية.
اصبحت معاهدة روما بمثابة دستور المجموعة الأوروبية العام 1957 وبداية الطريق نحو مشروع بناء الوحدة.
وقد سرع من عملية البناء ما سمّي بالكتاب الأبيض للمجموعة الأوروبية العام 1958 ومذكرة الوحدة العام 1986 مما مهد للسوق الداخلية بين أوروبا. واعتبر مشروع السوق الداخلي مفتاحا للتطوّر وطريقا لكسب انضمام المزيد من أسواق الدول الأوروبية.
وكملت مذكرة الوحدة دستور المجموعة الأوروبية حيث أصبحت القرارات تتخذ بأصوات الأغلبية وبذلك لم يعد بوسع بلد بمفرده إعاقة باقي المجموعة الأوروبية.
وقد بدا سريان مفعول السوق الداخلي للمجموعة في الأوّل من شهر يناير/ كانون الثاني 1993
اتفقت الدول الأعضاء في لقائها في ماستريخت العام 1991 على توسيع التعاون في مابينها واتخذت قرارات تغيير الاسم من المجموعة الأوروبية (اي.جي)، إلى الوحدة الأوروبية (اي يو).
اثارت معاهدة ماستريخت مناقشات وآراء حادة بين معارضين ومؤيدين، وجدلا بيزنطيا حول فحوى وأهمية المعاهدة.
يقول المعارضون: إنه جرى انتهاك شديد لاستقلالية الدول بينما يقول المؤيّدون: إن المعاهدة تشكل شرطا اساسيا لإمكانية تطور التعاون المشترك. وبالرغم من كل ما حصل بشأن هذه المعاهدة فقد قامت جميع الدول الأعضاء بالموافقة عليها.
إن تحوّل المجموعة الأوروبية إلى الوحدة الأوروبية قد سهل بالفعل من اتخاذ القرارات المشتركة وبين جميع الامور التي ينبغي على الوحدة عدم التدخل بها. وتعززت سلطة البرلمان الأوروبي وبالتالي نفوذ مؤسسات المجتمع المدني والنفوذ الشعبي، اذ انه يتم اختيار اعضاء البرلمان الأوروبي في انتخابات حرة ومباشرة ويجري التعاون في مجالات عدّة منها السياسية والتجارية والزراعية وسوق العمل المشترك والشئون الاجتماعية والتعليم والأبحاث. كما يخطط الى توسيع السياسة الخارجية والأمنية المشتركة والمصرف المركزي المشترك والعملة النقدية الموحدة والتي قامت على الأرض أساسا بين غالبية دول الاتحاد، وقد تضمنت الوحدة الاوروبية البدء بالعمل بجنسية الوحدة كجنسية تكميلية لجنسية كل بلد على حدة. ويتضمن هدا كلة حق التصويت والترشيح في الانتخابات المحلية حتى وإن لم يكن المرء مواطنا في ذلك البلد ويسري هذا الحق في انتخابات البرلمان الأوروبي.
ولكن على رغم كل الجهود الكبيرة التي بذلت على مدى سنوات بعيدة الامد من تأسييس النواة الاولى للوحدة الاوروبية وحتى يومنا هذا، لم يعد شعار الوحدة ومضامينها واهدافها وطموحاتها وتطلعاتها الاندماجية الكاملة يرضي الجميع، حيث يبرز التنافر الملفت بين الدول الاعضاء في الاتحاد وشعور بعض الشعوب، وبخاصة شعوب اوروبا الشرقية التي خرجت منذ سنوات قصيرة فقط من عباءة الشيوعية التي ضيقت عليها الخناق وعزلتها عن فضاءات العالم الحر من خلال فرض قوانين العسف العام وعبادة الاصنام في نظام الحزب الاوحد الشيوعي الشمولي، وأخذت تحث الخطى لتحطيم تلك الاصنام وشق الطريق الكبير الشائك لاختراق الاسوار الحديد التي فرضها عليها منطق الحرب الباردة لكي تصل الى ما كانت تتخيلة وتحلم به من نعيم الحرية والديمقراطية وحكم القانون والعيش الرغيد والكرامة الانسانية في الجزء الغربي من القارة الاوروبية. ولكنهم وللاسف الشديد اصطدموا منذ بداية الطريق الى جنة الغرب بعدة اسوار، كشفت عن الكثير من الحساسيات والاحباطات ورياء الحكومات الاوروبية الغربية ومحاولات بعضها عدم الاعتراف بحق ابناء جلدتهم من الاوروبيين الشرقيين في حق الاقامة والعمل والتمتع بامتيازات المواطن الاصلي الا بشروط وصفها بعضهم بالمجحفة والمذلة بعد ان ظلت كل هذه الحكومات طوال سنوات ما قبل تحرر هذه الشعوب توجه الرسائل تلو الاخرى الى حكومات الانظمة الشيوعية عبر الاسوار الحديدية تنتقد بشدة انتهاكاتها لحقوق الانسان وتحرض شعوبها على التمرد، وعلى حق الانتقال من بلد الى آخر. واليوم يرفعون في وجوه القادمين من الشرق الاوروبي تحديدا القوانين المجحفة والتمييز والمضايقات.
قبل سنوات من قبول عضوية البلدان الاوروبية الشرقية في الاتحاد الأوروبي مثل بولندا والمجر وجمهورية التشيك وبعدهم دول البلطيق الثلاث استونيا وليتوانيا ولاتفيا، كانت الآمال كبيرة والاحلام معلقة لدى شعوب هذه الدول من اجل الوصول الى جنة الغرب، وبالتالى الحصول على الفرص الاقتصادية والاجتماعية والعمل. ولكن اليوم وبعد أن ذاقوا مرارة العيش في بلدان كانت تقصد من رفع شعاراتها الإنسانية في وجه الأنظمة الشيوعية السابقة هو العمل على استغلال الانسان فقد كان العبوس والتململ هما السمة الغالبة على وجوه مواطني دول أوروبا الشرقية في غرب القارة.
الواقع ان حكومات الدول الغربية وخاصة بريطانيا والمانيا وفرنسا وهولندا والسويد والدانمارك التي كانت تحرض وتشجع على الهجرة واللجوء من الشرق الى الغرب بدأت تقيم الحواجز وتختلق المبررات والذرائع الواهية والمصاعب في وجه العمالة الوافدة من شرق القارة الاوروبية من خلال الاجراءات المشددة على الاقامة وصعوبات الحصول على السكن وارتفاع نسبة الضرائب في مقابل دفع الأجور الرخيصة جدا وخصوصا بين المهنيين والعمّال.
وتعمل على رسم الخطط والمشروعات المستقبلية الهادفة الى وضع السقوف المحددة من تدفق العمالة القادمة من الشرق بعد دخول عضوين جديدين في الاتحاد هما: رومانيا وبلغاريا التابعتين سابقا الى المعسكر الشيوعي، وشعور تلك الدول الغربية بانّ ملايين الأوروبيين الشرقيين هم على اهبة الاستعداد اليوم او غدا لمغادرة أوطانهم الأصلية لو انّ الغرب فتح لهم ابوابه مشرعة من دون أية شروط أو إجراءات مقننة.
ويبقى القول إنّ ما نشاهده اليوم من خلافات ظاهرة واخرى مستترة بين دول القارة الأوروبية ووخصوصا الدول الكبيرة والعريقة في الاتحاد هي ليست مجرد صدف أو سحب صيف عابرة، انما هي في حقيقة الأمر ذات جذور متأصّلة منذ عقود طويلة الامد؛ أي ما قبل الحرب الباردة. لذلك فشل الاتحاد في إصدار دستور موحّد، إذ إن فكرة الدستور الموحّد فشلت عند الفرنسيين والدنماركيين والبلجيكيين من خلال طرحه لهم في عمليات الاستفتاء الشعبي، وامتناع الحكومة البريطانية عن طرحه أمام شعبها خوفا من الرفض أيضا.
وبذلك تعثرت فكرة الوحدة النقدية بسبب الخلافات الداخلية التي أثارتها الدول المنظمة حديثا إلى الاتحاد بقيادة بولندا.
وتلك الظواهر ما هي إلا دليل على عدم قدرة الوحدة الأوروبية على تخطي المهام الكبرى وتحقيق المساواة بين كلّ شعوب القارة، رغم ما يُقال عن وجود التفاهم والتعاون والسلم والأمن المشترك والأخوة ووحدة المصير.
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 2067 - السبت 03 مايو 2008م الموافق 26 ربيع الثاني 1429هـ