ليس غريبا أنْ تكون الكلمة الحرة الصادقة النصر الأوّل والأهم الذي يمكن أنْ يحققه أيّ شعب يُعاني من السيطرة والقهر أو الاستبداد. فهذه الكلمة تجر وراءها كلّ الانتصارات اللاحقة، ودونها لا تستقيم الأمور... ليست هذه نظرية نحاول ترسيخها في اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يُصادف تاريخ اليوم، وإنما هي قصة حقيقية حدثت منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان، في الولايات المتحدة الأميركية بلد الديمقراطية الحديثة وحرية الصحافة اليوم.
في وقت ما حتى القرن السادس عشر الميلادي، كانت أميركا مستعمرة إنجليزية، و كان لكل مستعمرة أميركية هيكل تشريعي من نوع ما، و يتم تعيين حكّام تلك المستعمرات من لندن.
كان البرلمان البريطاني في ذلك الوقت قادرا على الاعتراض على القوانين المطبقة في المستعمرات الأميركية على اختلافاتها، وفي المقابل، كانت القوانين التي يسنّها البرلمان البريطاني واجبة الطاعة على المستعمرات الأميركية... وكان « قانون التحريض على القذف» هو أحد هذه القوانين.
في تلك الأجواء بدأت القصة، التي تعتبر اليوم الرمز الأوّل لحرية الصحافة في الولايات المتحدة، والرمز الأوّل لانتصار إرادة الشعب الأميركي على قوانين المستعمر الإنجليزي.
أمّا بطل القصة فهو صاحب جريدة نيويورك وويكلي جورنال « جون بيتر زنجر»، الذي تحدّى لأوّل مرة القانون سابق الذكر « التحريض على القذف» في العام 1734 وكتب في جريدته سلسلة من المقالات يتهم فيها حاكم الولاية « وليم كوسبي» بالخداع والظلم وعدم الشرف، مما جعل الحاكم يستخدم القانون ليوجه لزنجر تهمة التحريض على القذف.
وظل زنجر في السجن لمدة تسعة أشهر انتظارا للمحاكمة، فيما استمرت زوجته في إصدار الجريدة. وحين بدأت المحاكمة واجه « زنجر» قاعدة قانونية تقول « إنّ أية كلمات سواء كانت حقيقية أو زائفة تحاول النيل من الحكّام أو المسئولين الحكوميين توجب عقاب مَنْ يقترفها». وأثناء المحاكمة صرح رئيس القضاة أن الحقائق التي أعلنها « زنجر» في مقالاته تستوجب عقابه بحسب القانون. فيما استشهد محاميه بقضية سابقة وقعت في إنجلترا زاعما أنّ هيئة المحلفين تستطيع أنْ ترفض تعليمات رئيس القضاة من دون خوف من العقاب، وأنّ الحقائق المثبتة لا ينبغي أنْ تعتبر قذفا... وعلى الرغم من كلّ الحيثيات التي كانت تؤكد بأن زنجر سيدان، قررت هيئة المحلفين في النهاية أنه « ليس مذنبا». لتسجل بذلك سابقة هي الأولى من نوعها في المحاكم الأميركية. وعلى الرغم من أنّ هذا الحكم لم يغير من قانون القذف شيئا فيما بعد، حتى تم تعديل الدستور الأميركي لاحقا، إلاّ أنّ هذه القضية أصبحت تشير إلى بداية حرية الصحافة في أميركا ، لأنها سجلت أول نصر لمحاكم المستعمرات حول مبدأ أنّ الناس ينبغي أنْ تكون لديهم القدرة على الكتابة والكلام بحرية وانتقاد حكومتهم.
اليوم العالمي للصحافة الذي تصادف ذكراه اليوم، هو تذكير لكل الحكومات في العالم بضرورة احترام ما تعهدت به لدعم الحقوق الأساسية للصحافيين وحق شعوبهم في الحصول على المعلومات، وهو اليوم الذي يجري فيه استذكار أولئك الذين ذهبوا ضحايا للكلمة الحرة والذين تزداد أعدادهم حول العالم يوما بعد الآخر.
في هذا اليوم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1993، يجري التذكير حول العالم بأن استقلالية وسائل الإعلام معرضة للتهديد بسبب رقابة العديد من الحكومات عليها، وفي أحيان كثيرة تكون حياة الصحافيين مهددة، وإنْ لم تكن حياتهم، فاستقلاليتهم وحقهم في الوصول للمعلومات، وكرامتهم الشخصية، ومهنيتهم، كله تخضع للتهديد المباشر أحيانا، بسبب غياب للقوانين، أو قصورها، أو تغافل عنها. في هذا اليوم نستذكر جميعا قصة زنجر، ونتمنى أنْ يحصد مجتمعنا انتصارا كانتصاره.
إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"العدد 2066 - الجمعة 02 مايو 2008م الموافق 25 ربيع الثاني 1429هـ