«أعطهم زادا وافرا من الثقة بالنفس، وقسطا واسعا من التسليم والتصديق والاعتداد والإيمان الذي قد يفوق خبرتهم ومثقالهم المعرفي حجما ووزنا وقدراَ عمريا ويطفيء بريق معدنهم، وانظر بعد حينها كيف سينقلبون على أمورهم ومشاريعهم ومبادراتهم وخطاباتهم الرنانة، إنها صناعة الديكتاتورية بامتياز، وإنّ هنالك من بات أنموذجا لما نحن قد تحدّثنا عنه فهنالك الكثير من النماذج والحالات والأمثلة الراهنة قيد التحديث والإخراج والتمهيد والشعب وحدَه الذي أنتج وصنع واشترى هو مَنْ سيدفع الثمن...» باختصار كانت تلك كلمات أو قل تنهيدات متدبرة أطلقها أخ وصديق عزيز قد خبر الحياة الاجتماعية والسياسية بأشواط عديدة عن ما خبرته ربما بحكم سنه وبنشاطه الميداني الواسع، وأنا قد اتفقت معه على الفور بقناعة جازمة وبديهة لا تحتاج إلى مجادلات، فورشة ومشغل ومدرسة المجتمع هي صانعة وصاقلة الظاهرة الديكتاتورية بامتياز وغيرها من ظواهر فردية بحسب أولى المسلّمات النظرية في علم الاجتماع، ولم يكن الراحل صدّام حسين إلا تلميذا نجيبا ولامعا في مدرسة العراق!
ومن أحب أن ينظر إلى ظاهرة «الواعظ المودرن» على سبيل المثال، والذي لا ننكر أنّ أخانا له مطلق الحرية في أنْ يسير بحسب قناعاته وأهوائه التي تخصّه وحدَه ونحن نحترم ذلك، ولكننا نتساءل عمن الذي دفع الثمن جيّدا ومَن الذي هلل واغتبط حد السكرة، ومن نزه وكبّر وصلّى، ومَنْ استبشر وكتب بماء الذهب كلّ ما قاله أخونا «الواعظ المودرن» قبل أنْ يجد «طريق الهداية»، تاركا وراءه ما ترك، فجعل منه الجمهور قائدا هماما وسيفا مسلولا للطائفة وإماما للصحافيين وسياسيا محنّكا وكأنما «لا ينطق عن الهوى»، أليس هم أفراد الشعب بعامته وخاصته؟َ!
وأيّ فتى يافع وشاب مهما بلغ رشده لو أعطي ما أعطي أخونا سالف الذكر من إشادة وترقية وتنزيه وتزكية شعبية استثنائية لأصابه ما أصابه من فرط الثقة بالنفس وضمور البصيرة، وإني لأخشى على عمامة أخرى أنْ تكون في طريقها مأسورة نحو مراتع الاستغلال السياسي من الطرف الآخر المتربّص جيّدا بها، وأنْ تحذو حذو «الواعظ المودرن»، فهي قد مرّت على وجه التحديد بذات المسالك وخطوط السير والحواضن الصناعية العملية التي مرّت بها شخصية أخينا طيب الذكر إنْ لم تكن بدرجة أكبر وصلت إلى حد التقديس والتأليه، وأن يلقي كبار الأكاديميين والتقنيين شهاداتهم وثمرات معارفهم الناضجة وخبراتهم الشاقة عند خفي هذه الشخصية، وأن يقبل الكهول والشيوخ رأسها ويديها ويأتمرون بشواردها وخوالجها وخواطرها وحتى تخبطاتها السياسية المائلة مهما يكن الثمن وكأنهم بانتظار مسيح أو مهدي أو مخلّص جديد فذلك بالنسبة لي أمر لا يبشّر بالخير أبدا!
فهل يرينا التاريخ مرة أخرى أنّ الشعوب التي لم تسائل رموزها وقادتها لم تكن سوى أكبر «طوفة هبيطة»، وأنّ الكاريزما قد تكون أشد فتكا من «التهاب الكبد الوبائي»، وأنّ القناعة الفرودسية المزهرة قد ترشدك إلى الدرك الأسفل من جحيم الخيبة والإحباط بنهاية ومآل غير متوقع ألبتة لهذا «الملهم» الذي لا نعلم إنْ كان ضحية مغدورة أو هو أكبر غانم ومنتصر من تقديس «الرمز السياسي» و»الفقيه» و»القائد الحزبي»؟!
الأمر ذاته بالنسبة للكثير من نواب «المراكز العامّة» الذين وجدوا أنفسهم صدفة قد وصلوا إلى البرلمان وما كان لهم أنْ يصلوا لولا تحشيد جماهيري مموّل خلفهم كفرسان «الطائفة» لمقارعة «الوفاق» صاحبة «الأجندات» في معارك وهمية تندلع ببرلمان يقبع في الدرك الأسفل من رماد الدستور!
أحد الإخوة الأعزاء والزملاء الأفاضل تمنّى لو أنه يجد رجل دين وسياسيا يعتذر للجمهور عن ما قد يكون ارتكبه من أخطاء وخطايا وقاد إليه من خيبات، وأنا لا أظن ذلك؛ لأنهم منحوا في الكفة الشعبية قسطا وازنا من ثقة ذهبية وتقديس واحتفاء مؤله يجعل منه سقفا عاليا يستحيل انحناؤه ونزوله لئلا تتحطم الآمال والأحلام التي لم تتحقق!
والأمر لوحده لا يمكن أنْ يقتصر فقط على العمائم والرموز السياسية، بل أنه ليمتد إلى عالم الصحافة والفن والرياضة وغيره، وقد أجده من الملائم أنْ استشهد بقصة ناشطة نسائية أصابها الاحتفاء العالمي والدولي بها وبأنشطتها ومساعيها التي قد تكون صادقة بنوع من الاختلال وعدم التوازن السياسي دفع بها إلى نوع من تهلكة الثقة المفرطة بالنفس، والنرجسية الطافحة والمتجلية في بياناتها ومقالاتها ومجمل أنشطتها الاجتماعية والسياسية التي لا بد أن تبرز فيها اسمها ودورها الشخصي فوق الجميع، بل وهي الضحية البالغة الأهمية دوما، فلا أستبعد أنه لو خرجت ذات يوم ووجدت إطار سيارتها مثقوبا فستكون حينها المخابرات والحكومة وأحد أطراف السلطة المتنفذة على وجه التحديد هي المسئولة عن ذلك، أختنا الناشطة السياسية أثبتت للأسف في بياناتها ومقالاتها السياسية الفاقعة بسطحيتها وفقرها اللغوي والتعبيري أنها الناشطة تجسّد بذلك نظرية الفلكي البولندي كوبرنيكوس التي تقول: بدوران الأرض حول الشمس، ولكن وفي مقاس سياسي تدور فيه جميع أطراف وقوى وشخوص ونجوم البيئة السياسية الملوّثة على شمسها الأزلية، فشعاعها الصافي ونبضها الدفيء هو سيّد الإلهام!
متى سينتصر لذاته الشعب ويكف عن أنْ يكون «طوفة هبيطة» وورشة دكتاتورية لتخريج التلاميذ النجباء الذين ينسون مدرستهم ما أنْ يصلوا ويستحوذوا ويتمكّنوا؟!
هل هم بحاجة إلى «قائد» و»إمام» و»شيخ» و»مرجع» و»ملهم» و»رمز سياسي» حتى في ذلك؟!
لا أرجو ذلك!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2066 - الجمعة 02 مايو 2008م الموافق 25 ربيع الثاني 1429هـ