تستمر حركة الإدارة الأميركية في زيادة الضغط على الدول العربية المسماة بالدول المعتدلة لتنفيذ استراتيجيتها في المنطقة، في محاولةٍ للتعويض عن فشلها السياسي والأمني في العراق، بعد أن تكبد الاحتلال - إلى الآن - ما يزيد على أربعة آلاف قتيل وعشرين ألف جريح، إلى غيرهم من المضطربين عصبيا.
ولذلك، فإن المطلوب أميركيا، هو مساعدة الاحتلال الأميركي في استراتيجيته في العراق، ليبقى طويلا في إدارة الوضع العراقي، والسيطرة على ثرواته الطبيعية، ولاسيما النفط، ولتمتد حركته في تشجيع ما يسمى «الفوضى الخلاقة» التي حولت حياة الشعب العراقي إلى جحيم يحترق بناره أطفال العراق ونساؤه وشيوخه وشبابه، الذين تقصفهم الطائرات الأميركية بحجة أنهم أهداف معادية، لتبرر جريمتها بعد ذلك بأنها أخطأت في تحديد الهدف، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن القنابل والصواريخ لا تصيب إلا العوائل الآمنة في بيوتها، ولاسيما في مدينة الصدر التي عاشت الحرمان في أبشع صوره، حتى فَقَدَ سكان هذه المدينة من المستضعفين أبسط شروط الحياة.
وإننا نخشى أن يكون في خلفيات مؤتمر جوار العراق الذي عقد في الكويت، حصول أميركا على موقف داعم من الدول العربية والأوروبية والمنظمات الدولية، من أجل إنقاذ الاحتلال الأميركي من الورطة التي وضع نفسه فيها، والرمال المتحركة التي غرقت أقدام جنوده فيها، ما ترك تأثيره على الرأي العام الأميركي الداخلي الذي فَقَدَ الثقة بإدارته، وقد بدأنا نسمع بقوةٍ الأصوات الأميركية الشعبية المطالبة بانسحاب الجيش الأميركي من العراق.
وفي هذه المناسبة، نأمل أن يكون مؤتمر الكويت مناسبة للمطالبة بانسحاب الاحتلال من العراق، ودعوة بعض الدول العربية إلى منع دخول المتطرفين والإرهابيين إلى العراق واستباحته بمجازر وحشية ضد شعبه باسم الإسلام، والامتناع عن إثارة الجدل التاريخي في عناصر الفتنة المذهبية تنفيسا عن تعقيدات قد تختفي خلف بعض الأنظمة العربية المغلفة بعناوين دينية في الإطار المذهبي، ولكنها تتحرك - من خلالها - لأهداف سياسية، وخصوصا أن الخطة الأميركية التي استهدفت احتلال العراق كانت تتحرك من أجل إضعاف هذا البلد، بقطع النظر عن رأينا الثابت في نظامه الطاغي البائد، حتى لا تبقى هناك أية قوة في أية دولة عربية كبرى توازن قوة «إسرائيل»، تحت تأثير التلويح بانقسامات طائفية وعرقية نخشى أن تتحول إلى انقسامات دستورية، مما لم تعترض عليه أكثر من دولة من الدول المسماة دول الاعتدال العربي.
وفي السياق نفسه، يتأكد السعي الأميركي إلى تطبيع العلاقات العربية مع «إسرائيل»، باسم مشروع السلام الذي يتحدث عن دولة فلسطينية إلى جانب دولة «إسرائيل»، لاستكمال خطوط مؤتمر «أنابوليس» الفاشل الذي لم يحقق للعرب والفلسطينيين أيَّة نتيجة إيجابية في حقوقهم المشروعة، لأن المطلوب أميركيا هو إبراز «إسرائيل» بصورة الدولة الباحثة عن السلام.
ومن هنا، نؤكد أن أميركا تكذب عندما تتحدث عن السلام العادل للشعب الفلسطيني، أو الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، لأنها في كل تاريخها تبيع العرب بعض التصريحات الضبابية بطريقة استهلاكية مخادعة لا تعني شيئا، لأن كل القضية عندها هي المحافظة على تفوق «إسرائيل» العسكري والسياسي والاقتصادي والأمني، على أساس تأكيد الدولة اليهودية التي يلتزم بها كلُّ يهود العالم، في الوقت الذي تقف بوجه القرارات الدولية التي أقرت حق العودة للشعب الفلسطيني إلى أرضه.
وفي هذا الجو، تأتي زيارة وزيرة الخارجية الأميركية إلى بعض الدول العربية لتأكيد المصلحة الإسرائيلية حتى على حساب مصلحة العرب؛ لأن الإدارة الأميركية ليست في وارد الضغط على «إسرائيل» للحد من الغطرسة الإسرائيلية ووحشيتها التي تواجه بها الشعب الفلسطيني، في مصادرة أراضيه، وإقامة الجدار العازل، وبناء المستوطنات، وخصوصا في مرحلة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يتنافس فيها الحزبان الأميركيان، الديمقراطي والجمهوري، بشكل هستيري للحصول على تأييد اللوبي اليهودي في أميركا، من غير أن يحسب الفريقان حساب المسلمين والعرب، في أميركا وخارجها، لأن هؤلاء لم يستطيعوا أن يصنعوا من وجودهم قوة فاعلة ومؤثرة على قرارات الإدارات الأميركية المتعاقبة، وعلى الرأي العام الأميركي، في الحقوق الشرعية للعالم العربي والإسلامي.
ومن جانب آخر، طالعنا إعلان المنامة بحديثه عن الخشية من التسلح النووي الإيراني الذي نفته إيران، من دون أن يذكر، ولو ببضع كلمات، المجازر الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ومن دون أن يتوقف عند الترسانة النووية الإسرائيلية الهائلة التي تحظى بحماية غربية، في الوقت الذي لم توقع «إسرائيل» معاهدة حظر التجارب النووية التي وقعتها إيران.
وفي المناسبة، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية حديثا، أنه يتوجب على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أن تتخلى عن العنف، وأن توقف إطلاق الصواريخ على جنوب «إسرائيل» لكي تبرهن أنها مستعدة للسلام، وكأنها تبرر للعدو أية مجزرة جديدة قد يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني، من دون أن توجِّه هذا النداء إلى حليفتها «إسرائيل» التي تقوم بالاغتيالات والاجتياحات للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، حتى في الضفة الغربية التي تخضع للسلطة الفلسطينية، والتي لم ينطلق منها أي صاروخ على العدو، ولم تطلب رايس من «إسرائيل» الامتناع عن العنف التجويعي الغذائي والدوائي والحصار للخدمات الحيوية للمواطنين في غزة، ومحاولة إذلال الفلسطينيين على المعابر وأبواب الجدار العازل، والقصف الوحشي بالطائرات الأميركية التي لا تفرق بين مقاوم ومدني!
مسئولية إنقاذ الشعب الفلسطيني
إننا - أمام هذا الواقع - نهيب بالعرب والمسلمين أن يتحملوا مسئولياتهم ضد «إسرائيل» وأميركا، في الدفاع عن الشعب الفلسطيني الذي يواجه أكثر الوسائل وحشية في القصف والحصار، وعلى المسئولين جميعا أن يتقوا الله، فلا يمتنعوا عن مد يد المساعدة إلى هذا الشعب المنكوب بالاحتلال وبالحرب المتنقلة بين موقع وموقع في كل فلسطين، حتى لا يكون موقفهم منسجما مع الموقف الصهيوني.
لذلك، فإن عليهم أن يتمردوا على التعليمات الأميركية التي تمنع فريقها من المسئولين العرب والمسلمين من مساعدة الشعب الفلسطيني، لإبقائه وحيدا في مواجهة النازية الدولية التي تدعم «إسرائيل» في كل محارقها الفلسطينية.
زيارات تفعيل الأزمات في المنطقة
وليس بعيدا عن ذلك، تتحرك زيارات المندوبين الأميركيين الذين يؤكدون الخط السياسي لإدارتهم، في إبقاء الأزمات الداخلية في أكثر من بلد عربي رهينة مصالحها الاستراتيجية في حركة إدارة أزمة المنطقة، في ضغوطها على لبنان وفلسطين وسورية وإيران، بما تثيره من عناصر الفرقة بين اللبنانيين، أو تعقيد العلاقات مع سورية وإيران، باتهامهما بأنهما تمثلان المشكلة في أوضاع لبنان من جهة، وفي العراق من جهة أخرى.
وكانت زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد وولش إلى لبنان، إحدى وسائل إرباك الوضع السياسي الداخلي، من خلال أنها أظهرت كأن هناك علاقة عضوية بين بعض القيادات السياسية اللبنانية والإدارة الأميركية، التي وعدتهم ببذل كل جهودها في دعمهم لأجل حصولهم على القوة التي تتوازن مع قوة الفريق الآخر، حتى بات اللبنانيون يشعرون بأن هذه الإدارة تحولت إلى فريق لبناني يتدخل في أدق تفاصيل السياسة اللبنانية الداخلية، وهو ما ظهر جليا في تبشير هذا المسئول الأميركي اللبنانيين بأنهم سيواجهون صيفا حارا من خلال الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأزمة وسقطت فيه المبادرات، بما في ذلك المبادرة العربية التي يعرف الجميع أن أميركا لم تعترف بها بشكل فاعل، ولذلك ضغطت على أكثر من دولة عربية لعدم حضور القمة العربية، أو لإضعاف مستوى التمثيل، إضافة إلى المقاطعة اللبنانية للقمة التي كان من جدول أعمالها دراسة المبادرة العربية، في محاولة للوصول إلى آلية موضوعية تضمن تحقيق نقاطها، من خلال إجماع عربي على تفسيرها.
أما لبنان، فإن الانقسام السياسي بين معارضة وموالاة، وصل إلى درجة لا يسمح فيها للقاء والحوار في القضايا المختلف عليها، وهو ما يوحي بأن لبنان لم يعد موحَّدا على أساس المواطنة، بل إن الخلفيات الكامنة وراء كثير من الخطوط السياسية، تنطلق من لبنان الذي يستسلم لذهنية الضعف العربي، فيسقط تحت تأثير السياسة الأميركية التي تدفعه باتجاه المزيد من التأزمات الداخلية، والانشقاق الوطني، والمزيد من الانخراط في الواقع العربي المنفتح على الصداقة الإسرائيلية من جهة أخرى، مع التصريحات العنترية التي توحي بالفتنة والعنف والنفاق الطائفي. ويبقى الشعب يعاني من آلامه وجوعه وحرمانه وفقدانه للخدمات الحيوية التي يتجمد الواقع عندها بشكل مجنون.
والسؤال: أما آن لشمس هذا البلد أن تشرق، أم أنه مكتوب عليه أن يبقى في الليل الذي يغني له كلُّ المطربين في عالمنا العربي؟ أما آن لنا أن ننادي الفجر ليطلَّ بنوره على واقعنا؟!
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2065 - الخميس 01 مايو 2008م الموافق 24 ربيع الثاني 1429هـ